روبرت لويس ستيفنسون، 1886
تحذير: هذا المقال يحتوي على معلومات مفصلة عن القصة ونهايتها
انتظر، أيها القارئ، كيلا يسمعنا المحامي أترسون. فلقد مر المسكين بيومٍ من أسوأ أيام حياته، لكنه ليس أسوأها على الإطلاق، ليس بعد… ها هو يجلس منهارًا على مكتبه، وهو يتأمل المظروف الممهور بتوقيع صديقه لانيون، لانيون الذي عاد لتوه من جنازته. شعر أترسون بالخوف وهو يتأمل ذلك المظروف الذي يحتوي على السرّ الرهيب.
تعال لنعد بالزمن إلى الوراء، إلى حفل العشاء الذي أقامه د. هنري جيكل. ها هو صديقنا المحامي أترسون يجلس بين الضيوف. لعلّك لاحظت أنه يبدو جادًّا أكثر من اللازم بالنسبة إلى حفلٍ خفيفٍ كهذا، ولو كنا في أيّ يومٍ آخر لسارعت بلفت انتباهك إلى أنّها طبيعة السيد أترسون، فالجميع يعلم أنه رجلٌ وقورٌ نادر الكلام والابتسام، لكنني لن أستطيع أن أقول ذلك اليوم. فأنا أعرف بأيّ قلبٍ مثقلٍ جاء اليوم. وأعرف أن الشكوك تكاد تثير جنونه، والأسوأ: أنّها شكوكٌ مبهمةٌ ثقيلةٌ مربكةٌ ككلّ هذا الضباب الذي لا يكاد فصلٌ في القصة يخلو من وصفٍ مفصلٍ له. وإذا انتظرت معي حتى نهاية الحفل، فسوف تعرف السبب.
ها هو آخر ضيفٍ ينصرف، بينما انتظر أترسون كي يتبادل الحديث مع صديقه المقرب د. جيكل. ولم يكن لأترسون من الأصدقاء سوى اثنين: جيكل، ولانيون. قال أترسون لجيكل:
❞ – كنت أريد أن أحدثك في مسألة وصيتك.
= أي صديقي المسكين أترسون! من المؤسف أن يكون لك عميلٌ مثلي. لقد أزعجتك وصيتي كما لم أر شخصًا ينزعج من قبل، ربما فيما عدا المتحذلق لانيون الذي أزعجه ما يدعوه «هرطقتي» العلمية! أنا أعرف أنه رجل جيد، لا تعبس هكذا، إنه رجلٌ ممتاز، لكنه -رغم ذلك- متحذلقٌ جاهل.
– أنت تعلم أنها لا تعجبني أبدًا.
= وصيتي؟ نعم، أنا أعرف، لقد أخبرتني من قبل.
– وها أنا أخبرك ثانية! لقد سمعت شيئًا ما عن ذلك الشاب هايد.
= لا أريد أن أسمع المزيد. لقد اتفقنا ألا نناقش هذه المسألة.
– ما سمعته كان فظيعًا
= هذا لا يغير أي شيء. أنت لا تفهم. أنا في موقف غريب.. غريب جدًّا، إنها من المسائل التي لا يجدي معها الكلام.
– جيكل، أنت تعرفني: أنا أهل لثقتك. صارحني بكل شيء، سيظل الأمر سرًّا بيننا، وأنا واثق أنني أستطيع أن أخرجك من هذه الورطة.
= عزيزي أترسون! أنت صديق رائع، وأنا ممتن. لكن الأمر ليس كما تظن… أرجوك، إنها مسألة شخصية. أنا أهتم كثيرًا، كثيرًا جدًّا، بذلك الشاب هايد. عدني أن تحرص على أن يحصل هايد على حقوقه، عندما لا أكون هنا.
– أنا لا أستطيع أن أحبه أبدًا
= هذا ليس ما طلبته منك، كل ما أطالبك به هو العدالة، هو أن تساعده من أجلي عندما أغيب إلى غير رجعة… ❝
انصرف أترسون مغتمًّا، فأترسون كان رجلًا يقدس النظام، ويفترض أنّ كلّ شيءٍ في العالم يجب أن يكون منطقيًّا مفهومًا، وهو ما لا ينطبق على وصية جيكل! فأولًا، لماذا يصرّ جيكل على أن يجعل السيد هايد، وهو رجلٌ سيء السمعة، وريثه الوحيد؟ وثانيًا، لماذا يصرّعلى أن يرثه هايد إذا اختفى لأكثر من ثلاثة أشهرٍ متواصلة؟ ومن يكون السيد هايد هذا أصلًا؟ لم يسمع به أحدٌ سوى مؤخرًا، وقد أجمع كلّ من رآه على أنه رجلٌ منفرٌ قاسٍ. ورغم أن أحدًا لم يستطع أن يصف ملامحه بدقة، فقد أجمع الكلّ على أنه يبدو مشوهًا، رغم غياب أي تشوهٍ ظاهرٍ في ملامحه. كانت هذه الوصية تعكر صفوه كمحامٍ وكصديقٍ أيضًا. لأنها كانت تشي بمصيبتين: الأولى، ربما يكون جيكل قد وقع في ورطةٍ ما جعلته مضطرًّا للرضوخ إلى ابتزاز هايد. والثانية، هو أن الوصية تتيح لهايد طريقًا مختصرًا لممتلكات جيكل، يكفي أن يقتله ويتخلص من جثته وينتظر ثلاثة أشهرٍ فقط، ليحصل على كلّ شيءٍ بصورةٍ قانونيةٍ تمامًا!
استيقظ أترسون ذات صباحٍ ليتسلم رسالةً عاجلة. لم تكن عاجلةً بسبب محتواها، بل بسبب الظروف التي أحاطت بإرسالها. كان المرسل رجلًا مسنًّا من أكثر رجال لندن شعبيةً واحترامًا، وقد كلّفه إرسال تلك الرسالة حياته. كان قد سأل شابًّا عن الطريق إلى مكتب البريد، لكن الشابّ نهره ثم انهال عليه ضربًا بعصا خشبيةٍ ثقيلةٍ حتى أرداه قتيلًا، ثم فر هاربًا. وإن كنت قد خمنت أنّ القاتل هو هايد فأنت محق! صار هايد مطلوبًا أمام العدالة، أما جيكل، فقد أقسم لأترسون أن العلاقة بينه وبين هايد قد انتهت إلى الأبد.
بعد اختفاء هايد، بدا أن جوّ الكآبة والرعب الذي أطبق على جيكل لفترةٍ طويلةٍ قد زال، فعاد مرحًا مضيافًا يفتح أبوابه لأصدقائه القدامى، وأصلح علاقته بصديقه القديم لانيون، فسرّ أترسون سرورًا عظيمًا، وكيف لا وقد تصالح صديقاه الوحيدان أخيرًا بعد طول جفاء؟ لكن سروره لم يدم طويلًا، فسرعان ما انعزل جيكل مجددًا، وأقفل بابه أمام الأصدقاء والزوار.
عاد جيكل إلى عادته القديمة! ما العمل؟ زار أترسون صديقهما المشترك، د. لانيون، ليناقشه في أمر جيكل، فهاله ما رأى. كان لانيون في حالة إعياءٍ شديدٍ، وبدا أنّ أيامًا قليلةً تفصله عن الموت. وعندما سأله أترسون عن سبب مرضه المفاجئ، قال: «لقد تعرضت لصدمةٍ لن أتعافى منها قط. لقد كانت الحياة جميلةً. لكنني أرى أننا لو علمنا كلّ شيءٍ، لصرنا أكثر سرورًا برحيلنا عنها». حاول أترسون أن يسأله عن جيكل، لكن لانيون أوقفه قائلًا إنه قد قطع أي صلةٍ له به، وإنه يعتبره قد مات بالفعل.
لقد تشاجر الصديقان مجددًا إذن.. لكن لماذا؟ وما موضوع الشجار الذي قد يجعل أحد الطرفين يعزل نفسه عن العالم، ويجعل الآخر يرقد على مشارف الموت؟ عندما أرسل أترسون إلى جيكل يطالبه بتفسير كلّ هذا، كان ردّه غامضًا مقلقًا مقبضًا، وراح يؤكد أنه «إذا كنت أكبر الخطائين، فأنا أيضًا أكبر المعذّبين… الأمل الأخير لدي في هذه الحياة هو أن تحترم صمتي». هل جن؟ ربما، لكن أترسون شعر أن للأمر تفسيرًا آخر، تفسيرًا أعمق وأظلم كثيرًا من الجنون.
ثم أتاه النبأ الثقيل، لقد مات صديقه لانيون. ها هو يدخل مكتبه بعدما عاد للتوّ من جنازته، تمامًا كما وجدناه في مفتتح مقالنا هذا. جلس يتأمل المظروف الذي تركه له لانيون. هنا -على الأرجح- يكمن السرّ. لكنه انتهى لتوه من دفن صديقٍ عزيز، فماذا إن كلفه محتوى ذلك الخطاب صديقًا آخر؟ حبس أترسون أنفاسه وفتح المظروف. وإذا كنت تظن أنه -أخيرًا- استطاع إشباع فضوله، فأنت مخطئ! ففي الداخل، كان هناك مظروفٌ آخر، كتب عليه «لا يفتح إلا في حالة وفاة د. هنري جيكل أو اختفائه». اختفاؤه! تمامًا مثل وصية جيكل! حسنًا، من المفهوم أن يتوقع الجميع موته، فكلّ البشر يموتون، لكن لماذا ينتظر الجميع اختفاءه؟ لم يشبع هذا فضول أترسون، بل زاده اشتعالًا حتى كاد يقضي على تحكمه في نفسه، فكاد يمزق المظروف ليفهم الآن وهنا ما يحدث بالضبط. وسوف يستطيع أن يبرر لنفسه هذا فيما بعد، بأنه كان فقط يريد أن يتأكد من سلامة صديقه جيكل، فالمرء يستطيع دائمًا أن يجد مبررًا منطقيًّا مقنعًا لأفعاله، صحيح؟ لكنه -بإرادةٍ فولاذيةٍ- وضع المظروف المغلق في خزانته. لو كان الأمر يمسّ سلامة جيكل، لأخبره لانيون على الفور. سوف يثق في تقدير صديقه. سوف يحترم ثقة صديقه. سوف ينتظر.
ظل خادم جيكل يصدّه عن زيارة سيده إلى أن توقف عن المحاولة. لكن الخادم نفسه زار أترسون ذات يومٍ وهو في حالةٍ من التوتر والفزع. قال الخادم إنه يشكّ أن سيده قد قتل، وأن قاتله يختبئ في حجرة د. جيكل المقفلة من الداخل. بعد أحداثٍ كثيرة، نجح أترسون والخادم في اقتحام غرفة د. جيكل، ليجدا أمامهما جثة إدوارد هايد، الذي بدا أنه قد انتحر لتوه. أما د. جيكل -أو جثته- فلم يكن لها أثر. ما وجده أترسون، كان مظروفًا موجهًا إليه كالعادة، وكأن جميع من في المدينة لا يرسلون الرسائل سوى إلى أترسون!
لقد حانت لحظة الحقيقة إذن. بدأ أترسون بقراءة الرسالة التي تركها له لانيون قبيل موته. بدأت رسالة لانيون بذكر رسالةٍ عجيبةٍ تلقاها من جيكل، جاء فيها «عزيزي لانيون، رغم اختلافنا في بعض المسائل العلمية، فإنّ الودّ بيننا -من جهتي على الأقل- لم ينقطع أبدًا. ولو كنت قد جئتني في يومٍ تقول لي: جيكل، إن إنقاذ حياتي وشرفي وعقلي يعتمد عليك، لما تأخرت في مساعدتك. لانيون! إن مصير حياتي وشرفي وعقلي تحت رحمتك. وإذا خذلتني الليلة، فقد ضعت!» رغم هذه المقدمة المريبة، فلم يكن ما طلبه سوى أن يجلب لانيون صندوقًا من معمل جيكل ويحتفظ به في منزله إلى أن يأتي السيد هايد لاستلامه منه. وفي الليلة الموعودة، جاء هايد. شعر لانيون بنفورٍ وكراهيةٍ لا حد لهما تجاه ذلك الرجل ضئيل الجسم، لكنه سلّمه الأمانة على أي حال. وأمام عينيه المذهولتين، فض هايد محتويات الصندوق، وركّب منها مستحضرًا ما ثمّ شربه، ليتحول بمعجزةٍ ما إلى د. جيكل! وهنا انتهت رسالة لانيون، فقد منعته صدمته القوية من مواصلة الكتابة. أما رسالة هنري جيكل، فقد كانت تحتوي على اعترافٍ مفصلٍ بكل ما حدث.
نشأ جيكل في أسرةٍ ثريةٍ، وكان صبيًّا ذكيًّا مجتهدًا. كان يتمنى أن يصبح عالمًا ذا شأنٍ كبيرٍ في المجتمع. لكنه كان مرحًا عجولًا، وكان يجد في نفسه إقبالًا كبيرًا على الحياة ومسراتها الكثيرة. ولم تكن هذه مشكلةً في حدّ ذاتها، لكنّه كان يرى في ذلك تناقضًا كبيرًا مع صورة العالم الوقور الجادّ الذي يفوق الجميع حكمةً ورزانةً. وهكذا قرر الشاب اليافع جيكل أن يضع لنفسه حدودًا صارمةً أكثر من اللازم، فكان يحرص على كبت رغباته ومسراته -حتى المباح منها- أو إخفائها تمامًا عن الناس، كي يحقق تلك الصورة المثالية التي رسمها لنفسه.
ونجحت خطته بالفعل، صار عالمًا شهيرًا يعرفه الناس بمثاليته وحكمته المبالغ فيها، فأصبح حزينًا آسفًا. تسألني لماذا، أيها القارئ؟ هل تذكر تلك القرارات التي أخذناها في شبابنا الغضّ عما بدا لنا في حينه اقتناعًا تامًّا، ثم لم ندرك ما كانت تلك القرارات تعنيه حقًّا إلا بعد مرور عقدٍ أو أكثر؟ من كان يظنّ أن تلك الخيارات الصغيرة التي أخذناها قبل أن ندرك حقيقة الحياة ستشكل مسار حياتنا كلّه بعد ذلك؟ من كان يظنّ أننا عندما نبلغ المرحلة التي نستطيع فيها أن نفهم أنفسنا والعالم من حولنا، سيكون طريقنا في الحياة قد رصف وموقعنا فيها قد رسخ بالفعل؟ هذا ما أدركه جيكل. لم يكن نادمًا على اختيار حياة العالم الفاضل، لكنه أدرك أن المعايير غير الواقعية التي أصبح الجميع يعرفه بها، قد جعلته يعيش حياتين منفصلتين: حياة العالم الجادّ الذي يبالغ في زهده ويعيش بين الناس في نورٍ ساطعٍ، وحياة العابث المذنب المسرف الذي يختفي في الظلام فلا يدري أحدٌ بوجوده. وهو لم يعتبر هذا نفاقًا، لأنه كان يشعر أنّ العالم الخيّر كان جزءًا أصيلًا من نفسه، تمامًا كما كان ذلك العابث الشهوانيّ الأنانيّ جزءًا أصيلًا من نفسه أيضًا. ثم توصل جيكل إلى تلك النتيجة التي توصل إليها الملايين قبله: في كلّ إنسانٍ بذرة خيرٍ وبذرة شرٍّ، والصراع المستمرّ بينهما هو سببٌ أساسيٌّ من أسباب شقائه.
راح جيكل يحلم بعالمٍ يمكن فيه فصل العنصرين داخله، ليعيش الجانب الخبيث منه وحده غارقًا في لذاته وشروره دون أن يخشى كلام الناس القاسي أو ألم الضمير الأقسى، ويعيش الجانب الطيب منه سالمًا في جمعٍ من الطيبين أمثاله، لا يعكرّ صفوهم شرٌّ أبدًا. إلى أن توصل ذات يومٍ إلى عقارٍ يفصل الطبيعة الخبيثة للإنسان عن الجانب الخيّر منه! فإذا تناول المرء ذلك العقار، يتحول إلى الجانب الخبيث من نفسه، وإذا بطل مفعول العقار عاد إلى صورته الأولى. تجرع جيكل العقار، وكان أولّ ما شعر به هو خليطًا لا يحتمل من الألم والغثيان والرعب. لكن هذه الأعراض خفتت تدريجيًّا لتحلّ محلّها نشوةٌ عجيبةٌ، ورغبةٌ جامحةٌ في أن يطلق العنان لنفسه تمامًا. وشعر بالشرّ يجري في عروقه. لم ينفره ذلك كما كان يتوقع، بل أسكره نشوةً. كان جسده أقصر وأكثر ضآلةً من الطبيعيّ، وذلك لأنه عاش تسعة أعشار حياته في الجدّ والاجتهاد وفعل الخير، يقاوم الجانب المظلم في نفسه، ولذلك كان جانبه الشرير ضعيفًا ضئيلًا مقارنةً بجسد جيكل العادي. أما وجهه، فقد كان دميمًا منفرًا، يعطي إيحاءً قويًّا بالتشوه رغم غياب أي تشوهٍ ظاهر. قطراتٌ قليلةٌ من العقار كانت تكفي ليعود إلى شخصيته الأصلية، وكأن شيئًا لم يكن.
كان شبابه قد ولّى، ولم تعد تفصله عن خريف العمر سوى سنواتٍ معدودات. أما الآن، فقد وجد طريقةً تتيح له أن يحرر نفسه من كلّ قيد، وأن يحتفظ -في الآن ذاته- بصورة العالم الفاضل، فمن يتخيل أن هايد هو نفسه جيكل، بشحمه ولحمه؟ ثم ما المانع من القليل من المرح؟ سارع جيكل بتأثيث منزلٍ آخر لإدوارد هايد، وأعاد كتابة وصيته كما رأينا. ثم بدأ يعيش الحلم الذي طال انتظاره.
انطلق هايد حرًّا طليقًا ليروي ظمأ جيكل من مسرات الحياة. ورغم أن جيكل لم يخبرنا بما فعله بالضبط، إلا أنه يؤكد لنا أن هايد -وإن كان قد تجاوز الحدود إلى حدٍّ ما- لم يفعل شيئًا صادمًا أو مستنكرًا، وكان هذا كافيًا جدًا ليروي ظمأ جيكل. لكن مع استمرار هايد في حياة اللذة بلا أي قيد، بدأ يقوى، وصار إشباعه صعبًا، وأصبح ما يرتكبه من الشرور يتجاوز كثيرًا ما كان جيكل يتصوره، لدرجة أنه كان أحيانًا يجلس مصدومًا مصعوقًا مما فعل هايد، ويتعجب كيف استمتع هايد -وهو قطعةٌ من نفسه- بارتكاب الفظائع وتعذيب الآخرين على سبيل المتعة! لكنّه كان دائمًا يخدر ضميره ويشرب العقار لينطلق هايد من جديد، ثم ينام هايد آخر الليل فيستيقظ صباحًا وهو جيكل العالم الفاضل، وكأن شيئًا لم يكن. لاحظ جيكل أنّ التحول إلى هايد لم يعد يتطلب تناول جرعاتٍ كبيرةٍ من العقار، ولاحظ أيضًا أن جسد هايد صار أكبر وأطول. لكنه أغمض عينيه عن كلّ علامات الخطر من حوله، إلى أن استيقظ ذات يومٍ ليجد نفسه لا يزال في جسد هايد! واضطر إلى تناول العقار -لا ليتحول إلى هايد- بل ليعود مجددًا د. هنري جيكل. زلزلت تلك الواقعة جيكل، الذي أدرك أنه يجب أن يختار واحدًا فقط من الاثنين: إما جيكل، وإما هايد، وإلا فقد كلّ شيء. آلمه أن يفقد هايد، لكنه لم يتردد في اختيار حياة جيكل، العالم الفاضل المحبوب. كان هايد تجربةً مؤقتةً، وقد انتهت. لكن هل كان جيكل صادقًا؟ لماذا إذن لم يتخلص مما تبقى من العقار؟ لماذا إذن لم يتخلص من منزل هايد الاحتياطيّ وملابسه؟ لماذا -رغم قسمه أن هايد قد انتهى من حياته- أبقى كلّ شيءٍ مستعدًّا لعودته؟
أدرك جيكل أن ما أودى به لم يكن بذرة الشرّ في نفسه، وانتصارها أحيانًا، بل كان القيود غير الواقعية، واهتمامه بنظرة الناس إليه أكثر من اللازم. لكنه لم يتعلم الدرس، فبالغ، من جديد، في حياة الزهد والمثالية المفرطة التي لا يطيقها إنسان. ولذلك، استنفذ طاقته كلّها في شهرين، ووجد نفسه يتجرع العقار من جديد ليتحول إلى هايد، الذي زاد طول الحبس والحرمان توحشه. كانت هذه هي الليلة التي ارتكب فيها هايد أول جريمة قتل، متلذذًا بكلّ ضربةٍ ينهال بها على ضحيته المسكينة. كانت عقوبة الموت شنقًا تنتظر هايد، فأجبر جيكل -صادقًا هذه المرة- على قطع جميع جسوره مع هايد، وقرر أن يعيش ما تبقى من حياته كجيكل، العالم الخيّر، الذي يضعف فيخطئ أحيانًا، لكنّه سرعان ما يقوم من جديد. لكن من قال إن الخيار لا يزال بيده؟ كان جالسًا في حديقةٍ عامةٍ عندما داهمته الأعراض المألوفة ووجد نفسه يتحول إلى هايد دون أن يتناول قطرةً من العقار! ثم سرعان ما أصبح يتناول العقار بجرعاتٍ متزايدةٍ ليبقى في شخصية جيكل، وليس العكس! ثم كانت الضربة القاضية، عندما نفد العقار وفشل في تركيبه من جديد. وعندما أدرك أنّه يعيش آخر دقائق لجيكل في الحياة، قبل أن يأتي هايد إلى غير رجعة، خطّ اعترافه بسرعةٍ، ثم وضع حدًّا لحياته. لكن جثته لم تكن جثة جيكل، بل كانت جثة هايد… فقد اكتمل التحول.
حققت الرواية نجاحًا كبيرًا وقت صدورها لعدة أسباب، منها الطابع الوعظيّ الذي كان يروق لجماهير تلك الفترة. لكنها ليست مجرد روايةٍ وعظيةٍ ساذجة، وإلا لما احتفظت بمكانةٍ عاليةٍ في كلاسيكيات الأدب العالميّ حتى اليوم. كتبت الرواية بحرفيةٍ عالية، وعباراتٍ أدبيةٍ ثقيلةٍ نوعًا لكنّها تترك أثرًا طيبًا في النفس، ولا تنسى بسهولة. كما أنها تروى من وجهات نظرٍ متعددةٍ، وهو أسلوبٌ لم يكن معتادًا وقت نشرها. والرواية تضمّ عناصر قوطيةً واضحةً، مثل الجوّ المقبض، والألم، والخوف، والقتل، والانتحار. كما تضمّ عناصر رومانسيةً أيضًا، فالقصة تدور حول صراعٍ أخلاقيٍّ بخلفيةٍ علمية، ونرى العالم الذي تجاوز حدود المعرفة المسموح بها للإنسان يتلقى جزاءه المأساويّ في النهاية. ولعلّها تذكرك في ذلك الجانب برواية «فرانكنشتاين»، التي استعرضناها معًا من قبل.
لكن رغم كلّ التفاصيل الفنية، تبقى القيمة الأكبر للرواية في معالجتها لقضية الصراع بين الخير والشرّ في نفس الإنسان. (وهنا أيضًا تذكرنا برواية «صورة دوريان غراي»). فالرواية ترينا كيف أن جيكل لم يكن إنسانًا خبيثًا ابتداءً، وأنه لولا اهتمامه بكلام الناس أكثر من ضميره، ولولا الحياة المثالية التي فرضها على نفسه إلى أن كاد ينفجر، فقط كي يقول الناس عنه إنه رجلٌ حكيم، لما سقط عند أول هاويةٍ لا يرى الناس فيها ما يفعله.
لكنّ النقطة التي لاحظتها والتي أثرت فيّ شخصيًّا، هو أن الكاتب وإن كان يخبرنا أن هايد قد ارتكب الكثير من الفظائع، فلا يفصح لنا عن ماهية هذه الفظائع، فيما عدا جريمة القتل. ورغم ذلك، فلم يختر الكاتب جريمة القتل لتكون اللحظة الحاسمة التي ينتصر فيها هايد ليصبح الشخصية المهيمنة، تاركًا جيكل شخصيةً ثانويةً تستجلب بصعوبةٍ عن طريق تناول عقارٍ عجيب. الضربة القاضية التي أودت بجيكل، كانت في المشهد الذي تحول فيه فجأةً إلى هايد وهو جالسٌ في حديقةٍ عامة، دون أن يقع في خطأٍ ظاهر، بل كان جالسًا في هدوءٍ يفكر فيما مضى من حياته، ثم راح يقارن في إعجابٍ بين نشاطه في أعمال الخير التي انخرط فيها مؤخرًا وبين تكاسل الناس من حوله عن المشاركة فيها. هذه هي اللحظة التي اختار الكاتب فيها أن ينتصر هايد على جيكل، وكأنّه أراد أن يقول إن كلّ الفظائع التي ارتكبها هايد كانت تزيده قوةً، لكنّها لم تكن لتسحق بذرة الخير داخله، حتى جريمة القتل. أما الكبر وعدم الاعتراف بالخطأ، والإعجاب بالنفس والاستعلاء على الآخرين، فهي كفيلةٌ بالقضاء عليها تمامًا.
لا شكّ أن داخل كلٍّ منا جيكل وهايد، وأنهما يتداخلان ويتماهيان أثناء صراعهما المستمر، لأننا لا نملك عقارًا يرينا بوضوحٍ الحدود التي ينتهي عندها جيكل ويبدأ عندها هايد. ولا شكّ أيضًا أن الصراع بينهما -وإن كان سببًا أساسيًّا من أسباب شقائنا- لن ينتهي إلا بانتهاء حياتنا. لأن الشعور بالثقة في أننا قد انتصرنا إلى الأبد على كل شرورنا وغواياتنا قد يعني أن هايد في طريقه للانتصار! فلتقرع الطبول إذن، أيها القارئ، فأمامنا حربٌ طويلة! ونحن لن نستسلم!
- القصة ضمن المجال العام، ولذلك يمكن الحصول على النص الأصلي الكامل مجانًا (باللغة الإنكليزية) من مشروع غوتنبرغ.
- يمكن الحصول على تسجيلات الكتب الصوتية المجانية (باللغة الإنكليزية) على موقع ليبريفوكس (أفضل شخصيًّا تسجيل القارئ بوب نيفلد هنا).
- توجد نسخة مترجمة للعربية يُمكن تحميلها مجانًا من مؤسسة هنداوي على هذا الرابط، لكنني لا أنصحك بها لأنها مختصرة، ولا تفي العمل حقه. يوجد عدد من الترجمات الأخرى في المكتبات (تجنب تحميل النسخ المصورة من الكتب حفاظًا على حق المترجم والناشر).