شيرلوك هولمز – Sherlock Holmes (الجزء الثاني)

آرثر كونان دويل، 1887 ~ 1927

تحذير: هذا المقال يحتوي على معلومات مفصلة عن أحداث السلسلة ونهايتها

مرحبًا بك أيها القارئ، أراك قد عدت كي نواصل تحقيقنا حول شيرلوك هولمز وجلبت الـ«لب» كما اتفقنا. في الجزء الأول، ناقشنا الجزء العملي من حياته، وعلمنا أنه رجلٌ يجهل الجانب العاطفيّ غير العقلاني من التجربة الإنسانية، لكن هل هذا صحيح؟ وماذا عن صداقته بواطسن؟ ولماذا لا يلتحق بالقوات الرسمية؟ وكيف انتهت السلسلة؟ وما الذي جعلها تتفوق على قصص أدب الجريمة الأخرى؟

كنا قد افترقنا بعد عثورنا على صورةٍ لامرأةٍ جميلةٍ في حجرة شيرلوك. لقد أجريت تحرياتي، عزيزي القارئ، وأنا أعرف الآن قصة هذه الصورة وصاحبتها.

اسمها آيرين أدلر، وقد ظهرت في قصةٍ واحدةٍ فقط هي «فضيحة في بوهيميا»، وهي من أمتع قصص السلسلة على الإطلاق، ويقال إن الكاتب نفسه عدّها ضمن قصصه المفضلة في السلسلة. وهي ليست حبيبة شيرلوك كما تصور بعض الأعمال المشتقة من السلسلة، رغم أنها الوحيدة -على الأرجح- التي كانت تستطيع الحصول على ذلك اللقب، لو أتاح لها الكاتب أدنى فرصة. لكنّ الكاتب لم يكتف بأن يجعلها تفرّ مع زوجها من البلاد هربًا من شيرلوك، بل أخبرنا في مفتتح القصة أنها قد ماتت بالفعل، مغلقًا أي بابٍ أمام أيّ مطالباتٍ محتملةٍ من قرائه.

صورة من “مغامرة فضيحة في بوهيميا” تُظهر ملك بوهيميا الشاب مع شيرلوك وواطسن

كان ملك بوهيميا الشابّ قد وقع في حبّ آيرين مطربة الأوبرا الفاتنة، لكنه هجرها ليخطب أميرةً إسكندنافيةً تليق بالعرش. ثارت آيرين ثورةً عارمة، وهددته بفضح علاقتهما لتثير فضيحةً سياسيةً وأزمةً دبلوماسيةً كبيرة، إذا لم يعد إليها. سقط في يد الملك الشاب، فلجأ إلى شيرلوك هولمز، الذي قال له:

❞= طالما لم تتزوجها سرًا ولا يوجد أيّ مستندات رسمية في الموضوع، فلن تستطيع هي أن تثبت أن الرسائل التي تبتزك بها أصلية..
– خط يدي مثلا…
= لا، لا.. لنقل إنه زوّر!
– أوراق نوتتي الخاصة..
= سرقت..
– خاتمي الخاص..
= قلّد
– صورتي..
= اشترتها..
– لقد كنا معًا -أنا وهي- في الصورة..
= يا إلهي! هذا سيئ جدًا! ❝

كان هذا قبل عصر الفوتوشوب كما تعلم، ولذلك كانت الصورة قنبلةً موقوتةً تنتظر الانفجار لتحطيم مستقبل الملك الشاب. فشلت جميع محاولاته للعثور على الصورة، أو حتى شرائها. لهذا لجأ إلى شيرلوك، الذي تنكر في صورة رجل جريح مسكين ليخدع آيرين ويدخل منزلها، واكتشف -بعد خطة معقدة- المكان السريّ الذي أخفت فيه آيرين الصورة، واكتشف أيضًا أنها تزوجت سرًّا. كان منشغلًا في مراجعة خططه، فلم يلق بالًا للشاب الذي ألقى عليه التحية واختفى وسط الزحام. بقي فقط أن يصطحب الملك الشابّ في وقتٍ مبكر من صباح اليوم التالي ليفاجئ آيرين ويجبرها على التنازل عن الصورة، ويسجل هو انتصارًا جديدًا.

لكن المفاجأة كانت من نصيب شيرلوك حين قالت الخادمة فور أن فتحت له الباب: «أنت السيد شيرلوك هولمز، أليس كذلك؟ لقد أخبرتني سيدتي أنك ستزورنا. وقد رحلت مع زوجها على متن قطار الخامسة والربع فجرًا إلى أوروبا…». كانت هذه من المرات النادرة التي يعجز فيها شيرلوك عن إخفاء صدمته. شحب وجهه وهو يقتحم المنزل ويفتش المكان السري، لكنه لم يجد إلا صورةً لآيرين منفردةً، ورسالةً موجهةً إلى «السيد شيرلوك هولمز» تخطره بأنها قد كشفت خطته، وأنها تنكرت في زي شاب وتبعته إلى منزله وألقت عليه التحية كي تتأكد بنفسها أنه المحقق الشهير، وأنها فرت مع زوجها. كما جاء في الرسالة:

❞أما بالنسبة لمسألة الصورة، فيمكن لعميلك أن يطمئن. فأنا أحب رجلًا أفضل منه. سوف أحتفظ بالصورة فقط كسلاح لحماية نفسي. وقد تركت صورة أخرى قد يفضل هو الاحتفاظ بها ❝

لقد كشفت خطته، وخدعته بتنكرها، هو الذي يجيد التنكر أكثر من أدهم صبري ذاته! سعد الملك بهذه النهاية، فهو يعلم أن آيرين لا تخلف وعدها مطلقًا. وعندما خلع خاتمه الزمردي الثمين وقدمه مكافأةً سخية إلى شيرلوك، رفضه قائلًا: «جلالتك تملك شيئًا أقدره أكثر من هذا الخاتم، إنها صورة آيرين أدلر». وهكذا أخذ شيرلوك صورة آيرين وانصرف مشتت الذهن، دون أن ينتبه حتى لكف الملك الممدود لمصافحته.

منذ ذلك اليوم، توقف شيرلوك عن السخرية من حماقة النساء. كما أنه لا يذكر آيرين إلا بوصفها «المرأة»، احترامًا لها. كانت آيرين هي المرأة الوحيدة بالنسبة إلى شيرلوك هولمز، كما يخبرنا واطسن، لكن إعجابه بها ليس رومانسيّ الطابع. فشيرلوك ينفر نفورًا شديدًا من المشاعر الإنسانية، خاصة الرومانسية منها. والمشاعر، بالنسبة إليه، تفسد حكم المرء ودقة تفكيره، كالعدسة المكبرة التي يتوسطها شرخٌ عميق، أو الآلة التي تفقد بعض تروسها. وأي خير، عزيزي القارئ، في عدسةٍ مشروخة أو آلةٍ جنت تروسها؟

عبر شيرلوك عن ذلك المعنى أكثر من مرة خلال السلسلة، ولعل أطرفها كان في قصة «توقيع الأربعة». كان واطسن قد وقع في حب عميلة شيرلوك هولمز، وظل مشتتًا تمامًا طوال الوقت، لدرجة أنه أوصى مريضًا بتناول سمّ الاستركنين الفتاك كمهدئ! وعندما أبلغ واطسن صديقه هولمز في النهاية أنه سوف يتزوج عميلته، انزعج شيرلوك كثيرًا رغم اعترافه بأنها شابةٌ رائعة، وقال: «أنا لا أستطيع أن أهنئك! الحب شيء عاطفي، وأي شيء عاطفي يتعارض مع ذلك المنطق البارد البحت الذي أعليه فوق كل شيء. فلن أتزوج أبدًا، كيلا يتأثر حكمي على الأمور».

غلاف النسخة المجمعة من رواية “توقيع الأربعة”
التي نُشرت مسلسلة

أضف إلى ذلك غيظ شيرلوك من الجنس اللطيف. وهو لا يكره النساء بالضبط، لكنه لا يثق بهن كثيرًا، لأنهن كائناتٍ غير منطقية، قد تعني أقل لفتةٍ منهن مجلدات، بينما قد تأتين بردود فعلٍ صادمةٍ على أسباب تافهة، حتى تساءل «وكيف إذن يبني المرء أي شيء على هذه الرمال المتحركة؟»، فالنساء إذن رمالٌ متحركة، وشيرلوك رجل لا يقدر إلا الأرض الصلبة. لكن لا تنس أن هذا هو رأيه العام في النساء ككل، ككيان عام مختزل، أما تعاملاته المباشرة مع النساء المختلفات في حياته، فكانت أبعد ما تكون عن الاستخفاف أو الاستهانة، بل كانت أقرب إلى الفروسية على حدّ وصف واطسن، وكثيرًا ما أبدى إعجابه بذكاء عميلاته وشجاعتهن.

ورغم نفور شيرلوك من المشاعر الإنسانية، فهو لا يجهل كلية معناها وأهميتها. ففي  «مغامرة وادي الخوف»، آلمه عدم تأثر زوجةٍ قتل زوجها للتو، وأخبر واطسن أنه يتمنى لو تزوج يومًا أن يثير في قلب زوجته من المشاعر ما يجعلها تتأثر لموته. وفي «مغامرة قدم الشيطان»، جلس يستمع لاعتراف رجل قتل شقيق حبيبته، لأن شقيق حبيبته هذا كان قد تخلص من جميع أشقائه مستخدمًا سمًّا عجيبًا ليكون الوريث الوحيد، في جريمة كاملة لا يمكن إثباتها، فقتله حبيب شقيقته القتيلة مستخدمًا نفس السّمّ جزاء وفاقًا. تأثر هولمز بقصته، وقدّر أن القانون لم يكن لينصف أيًّا من ضحايا الشقيق المجرم، فتركه يغادر البلاد دون أن يبلغ عنه السلطات، قائلًا لواطسن: «لم أقع في الحب قط، لكنني إن فعلت، وإن تعرضت المرأة التي أحب إلى نهاية كهذه، لربما فعلت مثل صائد الأسود الخارج عن القانون هذا، من يدري؟».

كثيرًا ما اتهم شيرلوك بأنه رجلٌ قاسٍ لا يعامل عملاءه كبشر، بل كمشكلات مجردةٍ تحتاج إلى حل، لا أكثر. وقد يوحي برود هولمز بذلك أحيانًا، لكن من يراجع قضاياه سوف يدرك مدى ظلم هذا الاتهام. فعندما قتل عميله قبل انتهاء القضية في «مغامرة بذور البرتقال الخمس»، تأثر بشدة لمقتله، وكان مما قاله: «لقد أصبح الأمر شخصيًّا الآن، وإذا أمدني الله بالصحة، فلأمسكن بهذه العصابة بيدي. يا إلهي! يأتي إلي طلبًا للمساعدة، فأرسله إلى حتفه!». وفي مغامرة «أشجار كوبر بيتشز»، أتته شابةٌ تستشيره في عرض عملٍ جاءها مؤخرًا. وهو أمرٌ لا يقع ضمن نطاق تخصصه كمحقق، لكنها أوضحت أنها يتيمةٌ وحيدةٌ وأنها تحتاج إلى المشورة، فما كان من شيرلوك إلا أن أخذ المسألة على محمل الجد، ولم يعتبرها مجرد عميلة، بل ظل يردد طوال القضية أنه لا يمكن أن يسمح أن تتعرض شقيقةٌ له إلى هذه المواقف، ولم يترك الأمر إلا وقد اطمأنّ أنها لم تعد في خطر. وماذا عن مغامرة «البقعة الثانية»، عندما اكتشف أن زوجة عميله تسببت -دون قصد- في ضياع المستند المهمّ الذي وكّل بالبحث عنه، فتكبد مصاعب إضافيةً كي يطمئن الزوجة ويعيد المستند بحيث لا يشك الزوج في الأمر مطلقًا، شفقةً على الزوجة المحبة وحرصًا على سلامة علاقتها بزوجها. وفي قضية «العصّابة الرقطاء»، عندما اعتذرت له عميلته الشابة بأنها لا تستطيع أن تدفع له أتعابه إلا آجلًا، أعفاها -دون إحراج أو تفضل- من التفكير في الأمر، وبذل كلّ جهده في مساعدتها. وشيرلوك لا يرفض أيّ عميلٍ يحتاج إلى المساعدة حتى لو لم يتلق أي أجر، فعمله هو مكافأته كما يقول دائمًا، وهو لا يرفض إلا القضايا المملة، أو التي تتضمن مساعدة شخصٍ خبيث النفس.

عميلة شيرلوك تسأله النصيحة في قبول عرض العمل
مغامرة “أشجار كوبر بيتشز”

كان لشيرلوك صديقٌ حقيقيٌّ واحد، هو جون واطسن، راوي مغامراته الذي نعيش القصص كلّها من وجهة نظره. ونحن لم نكن لنفهم شيرلوك ونقدر مغامراته حقًا دون وساطة واطسن. ولو كان شيرلوك هو من يروي لنا مغامراته، لفسد الأمر بالكامل! فلا تنس أن شيرلوك كان يكره طريقة واطسن القصصية في عرض مغامراتهما معًا. وكان ينوي أن يعيد صياغتها كلّها بشكلٍ منظم مختصر دقيق، يركز فيه على الحقائق المهمة والأخطاء التي يمكن تفاديها، لتتحول إلى كتاب دراسيّ شامل في علم الاستدلال! وقد تكون صياغة شيرلوك لقصصه عمليةً وأنفع لطلاب العلم، لكنها تضيع سحر عالمه على ملايين معجبيه عبر السنين. واطسن يضع شيرلوك ومغامراته في سياقٍ متوازنٍ يسمح لنا بفهم شيرلوك وعالمه، حتى نقدر مهاراته ونتعلم منهجه الاستدلالي، دون أن نسيء فهمه. واطسن جعلنا نحب شيرلوك ونتعاطف معه، حتى في اللحظات التي يثير فيها غيظنا أو استنكارنا.

كان شيرلوك يثق في واطسن ثقةً مطلقة، ويحبّ أن يصطحبه في مغامراته. ورغم افتراقهما لفترات طويلة خلال السلسلة، لم يؤثر ذلك في قوة صداقتهما قط، فكان إذا احتاج إلى واطسن في أي وقت يرسل إليه رسائل مثل: «تعال على الفور إن كان ذلك يناسبك، وإذا لم يكن يناسبك، تعال أيضًا!». كما كان وجود واطسن معه يلهمه بالأفكار، فقال: «قد لا تكون مضيئًا يا واطسن، لكنك موصلٌ جيد للضوء. بعض الناس لا يملك العبقرية، لكنه يملك القدرة على إثارتها في الآخرين. وأنا مدينٌ لك كثيرًا». والعجيب أن واطسن اعتبر هذه الكلمات المثيرة للغيظ إطراءً!

لكن شيرلوك ليس صديقًا سهلًا، والحقّ أن واطسن قد احتمل منه الكثير، فكان هولمز كثيرًا ما يثير غضبه دون قصدٍ بسبب جفافه، أو بسبب عدم تقدير جهود واطسن لمساعدته أو إرضائه، حتى وصف واطسن نفسه بـ«أكثر الفانين معاناةٍ» بسبب صديقه. وفقد أعصابه ذات مرة فصاح في وجهه: «هولمز! أحيانًا تكون مستفزًا قليلًا!»، وهي أقصى درجات الغضب الممكنة عند واطسن، كما تعلم. ثم هل تذكر «مغامرة كلب آل باسكرفيل»؟ حين ورطه شيرلوك في مهمة صعبةٍ خطرة -اتضح في النهاية أنها كانت مجرد خدعةٍ لتضليل المجرم- دون أن يأخذ رأيه حتى! ولم تكن هذه آخر خدعةٍ يتجرعها واطسن المسكين.

لكن أقسى موقفٍ تعرض له واطسن على الإطلاق، كان في مغامرة «المشكلة الأخيرة». كان شيرلوك قد وجد غريمًا حقيقيًّا أخيرًا: البروفيسور موريارتي، الذي لم يكن يقلّ عبقريةً عن شيرلوك ذاته. وكما كان شيرلوك مستشارًا للمحققين، كان موريارتي مستشارًا للمجرمين، والعقل المدبر للجريمة في لندن. كان شيرلوك شديد الإعجاب بذكاء غريمه، حتى قال لواطسن: «اشمئزازي من جرائمه ضاع وسط إعجابي بمهارته». لكن موريارتي كان خصمًا خطرًا، وكان لا بد من مواجهة أخيرة. ظن واطسن أن هولمز قد قتل في مواجهته الأخيرة مع موريارتي وهو يقرأ رسالته «.. يسرني التفكير أنني سأتمكن من تخليص المجتمع منه أخيرًا، رغم أن تكلفة ذلك ستكون مؤلمة لأصدقائي، وخاصة -عزيزي واطسن- لك أنت…». لكن شيرلوك لم يمت، بل أقنع الجميع بذلك، وظل متخفيًّا لمدة ثلاث سنوات كاملة حتى يزول خطر انتقام أنصار موريارتي.

المواجهة الأخيرة مع موريارتي
من “مغامرة المشكلة الأخيرة”

كانت صدمة موته المزعوم ثقيلةً على واطسن، الذي فقد زوجته أيضًا بعد فترة، فعاش حزينًا يجتر ذكرى ما قد مضى. ذات يوم، زاره بائع كتب مسنٌ أحدب. التفت للحظات ثم استدار ليواجه البائع مجددًا، لكنه وجد نفسه يقف في مواجهة شيرلوك هولمز! صعق واطسن، وفقد وعيه للمرة الأولى -والأخيرة- في حياته. «عزيزي واطسن! أنا أدين لك بألف اعتذار! لم أتصور قطّ أن تتأثر هكذا! لقد صدمتك بعودتي الدرامية هذه!». لكنّ سعادة واطسن بعودة صديقه جعلته يسامح شيرلوك، الذي أسرع يشرح له موقفه ويمطره بالاعتذارات، قبل أن ينطلق معه واطسن في مغامرة جديدة بكل سرور.

أما علاقته برجال الشرطة فهي معقدة بعض الشيء. فهولمز دائمًا يسخر من قصر نظرهم، وأساليبهم التقليدية العقيمة في التحريات. أما هم، فينعتونه بالـ«منظّر» غير العملي. لكن هذا لم يمنع كلّ طرفٍ من الطرفين من الاستعانة بالآخر باستمرار. ورغم الخلافات المستمرة -وفظاظة هولمز غير المحتملة في أحيانٍ كثيرة- كسب هولمز ثقتهم واحترامهم، واتخذه بعضهم معلمًا، كما توطدت علاقته بعدد منهم، خاصة المحقق العزيز لاستراد.

ففي «مغامرة تماثيل نابوليون الستة»، عندما قال له لاستراد: «نحن -في سكوتلانديارد- لا نغار منك، لا يا سيدي! بل نحن فخورون بك للغاية، وإذا زرتنا غدًا، فلن تجد رجلًا -من أقدم محقق حتى أصغر شرطي- لا تسعده مصافحتك». شكره شيرلوك بحرارة، ولاحظ واطسن كيف كانت هذه من المرات النادرة التي يبدو فيها تأثره للعيان. وفي الأعداد اللاحقة من السلسلة، نرى شيرلوك يصف لاستراد بـ«الصديق». ويحكي لنا واطسن كيف كان هولمز يسرّ بزيارات لاستراد، الذي أصبح زائرًا مسائيًا منتظمًا في شارع بيكر.

المحقق لاستراد يُلقي القبض على أحد المجرمين

لكن إن كان الأمر كذلك، فلماذا إذن لا يلتحق بالقوات الرسمية؟ الأسباب كثيرة، منها تفضيله لأن يكون حرًّا. «أنا أتّبع طرقي الخاصة، وأفصح عن المقدار الذي أختاره، وهذه هي مزيّة أن تكون خارج القوات الرسمية». كما أنه يدرك أن القانون ليس عادلًا تمامًا، وأن الشرطي لا يملك إلا اتباع ذلك القانون حرفيًّا، حتى إذا كان ظالمًا. و«مغامرة تشارلز أوغسطس ميلفرتون» مثال واضح على ذلك. كان تشارلز ميلفرتون هذا رجلًا وضيعًا، فاحش الثراء، احترف الابتزاز حتى أصبح ملكًا للمبتزين. وكان هولمز يبغضه ويحتقره أكثر من أي مجرم آخر. وعندما لجأت إليه امرأة يائسة تطلب منه استرداد رسائل قديمةٍ يبتزّها بها ميلفرتون، لم يتردد شيرلوك في كسر القانون واقتحام منزل ميلفرتون، مخاطرًا بسمعته ومستقبل عمله. وبينما كان مختبئًا مع واطسن في حجرة ميلفرتون، زارته إحدى ضحاياه وقتلته دون أن تعلم بوجودهما. لم تتح لهما أيّ فرصة لمنع الجريمة، لكنها ما إن فرت من الحجرة حتى أسرع هولمز يلقى كلّ أوراق ميلفرتون التي كان يبتزّ بها ضحاياه في نيران المدفأة حتى تأكد من احتراقها تمامًا، ثم انطلق هاربًا مع واطسن في اللحظة الأخيرة. وعندما استشاره المحقق لاستراد في جريمة قتل ميلفرتون في الصباح التالي، كان ردّ شيرلوك: «أخشى أنني لا أستطيع أن أساعدك يا لاستراد. فأنا أعرف ميلفرتون هذا. وأرى أن بعض الجرائم لا يستطيع القانون أن يمسها، وهذا يسوغ الانتقام الشخصي إلى حد ما. هذه المرة، أجد نفسي متعاطفًا مع المجرمين وليس مع الضحية، ولن أتدخل في هذه القضية». كما أن قواته غير الرسمية أفضل من رجال سكوتلانديارد ألف مرة في جمع المعلومات. وقوات شارع بيكر غير الرسمية تتكون من مجموعة من أطفال الشوارع الذين جندهم هولمز لمساعدته مقابل المال، ويعرفون أيضًا باسم «عرب الشوارع»، لانتقالهم من مكان إلى مكان دون مأوى ثابت، مثل البدو الرحل.

هولمز وواطسن يخبران ميلفرتون -ملك المبتزين- رأيهما فيه بصراحة!

وآخر مغامرات شيرلوك نجدها في قصة «تحيته الأخيرة» -والتي ترجمت في بعض النسخ العربية إلى «قوسه الأخير» (وهو خطأ في ترجمة كلمة Bow)-، وقد نشرت عدة قصص بعدها، لكنها الأخيرة في الترتيب الزمني للأحداث. تختلف القصة كثيرًا عن بقية السلسلة، فواطسن لا يرويها لنا كالعادة، بل يحكيها لنا الكاتب مباشرة. كما أنها قصةٌ جاسوسية وليست بوليسية. ونفهم من القصة أن شيرلوك تقاعد أخيرًا بعد سنوات طويلة من العمل الشاق، فترك لندن وعاش في مزرعة صغيرة هادئة لا يعكر صفو أيامه سوى هجمات الروماتيزم. وقد رفض كلّ محاولات إعادته إلى العمل بإصرار، إلا طلبًا واحدًا: التدخل في عمليةٍ جاسوسية ضد ألمانيا قبيل الحرب العالمية الأولى. وقرب نهاية المغامرة، أرسل إلى صديقه القديم واطسن يطلب مساعدته بعد سنواتٍ طويلة من الانقطاع، فلبى واطسن الطلب بكل سرور، وأتما مهمتهما بنجاح.

❞= «ماذا فعلت بك السنين يا واطسن؟ تبدو نفس الفتى المرح كما كنت»

– «أشعر أنني أصغر عشرين عامًا! كم أسعدني تلقي رسالتك التي طلبت فيها أن أقابلك هنا بالسيارة! لكنك لم تتغير كثيرًا، ما عدا لحية الماعز الفظيعة هذه…» ❝

ها هو هولمز يستعرض ثمرة سنوات التقاعد أمام واطسن بكل فخر، كتاب: «الدليل العملي لتربية النحل، مع بعض الملاحظات حول عزل الملكة». قال لواطسن: «كتبته وحدي، بعد ليالٍ طويلة من التأمل قضيتها أراقب جماعات النحل العاملة كما راقبت عالم الجريمة في لندن من قبل».

استوحى آرثر كونان دويل شخصية شيرلوك هولمز من أستاذه عالم الطبّ الشرعيّ د. جوزيف بل، ونقلها بقلمه الرشيق إلى عالم الجريمة، فحقق نجاحًا ساحقًا من القصة الأولى. وبعد فترة، أراد الكاتب التفرغ لرواياته الأخرى، فقتل شيرلوك في مواجهته الأخيرة مع موريارتي كما ذكرنا. ثار القراء، وألغى أكثر من 20,000 قارئٍ اشتراكهم في الجريدة التي كانت تنشر قصص شيرلوك هولمز مسلسلةً اعتراضًا على موته. فاضطر الكاتب -لحسن حظنا- أن يواصل كتابة قصص شيرلوك هولمز.

آرثر كونان دويل

لكن لماذا تربع شيرلوك على عرش أدب الجريمة؟ العوامل كثيرة، ولعلّ أهمّها هو أن مغامرات شيرلوك هولمز ليست مجرد قصصٍ بوليسيةٍ مثيرة، بل هي أعمالٌ أدبيةٌ متكاملةٌ رفيعة الطراز. فبينما أبدعت قصص الجريمة الأخرى في ابتكار حبكاتٍ ملتويةٍ لتحدي القارئ لمعرفة من فعلها، ركزت مغامرات شيرلوك هولمز على شخصية محققنا العزيز ذاته. ففي مغامرات شيرلوك هولمز لا يهمنا كثيرًا من فعلها، بقدر ما يهمنا كيف استقبل شيرلوك القضية، وأيّ خطةٍ مجنونةٍ وضع لحلها، وكيف أثار جنون واطسن ولاستراد، وأيّ الجوانب الجديدة من شخصيته سيسمح لنا الكاتب باكتشافها.. شيرلوك ليس مجرد محققٍ نستكشف من خلاله عالم الجريمة، بل إن الجرائم التي نقرأها هي الوسيلة التي تتيح لنا التعرف على جوانب مختلفةٍ من شخصية شيرلوك هولمز وعالمه المثير. ولا يملك القارئ إلا أن يحبّ شيرلوك، ذلك المحقق العبقريّ غريب الأطوار، الذي يتّبع منهجًا مثيرًا في تحقيقاته، ويجمع معارف عجيبة، ولا يحب الاختلاط بالبشر، ويستغرق تمامًا في العمل حتى ينسى الأكل والنوم. كما أن «باليتّة» المشاعر الإنسانية لديه ليست كبيرةً ولا منوعة، ولكنها تضمّ من هذه المشاعر أنبلها وأصدقها. ومن المؤسف أن نجد الكثير من الترجمات العربية تحذف كلّ الأجزاء التي لا تتعلق مباشرةً بالقضية، فتحولها إلى مجرد قصةٍ أخرى من طراز «من فعلها»، وهو ما يقتلها قتلًا، لأنها لم تكتب لتكون كذلك.

كما أن جوّ لندن في قصص شيرلوك مميزٌ جدًا. فهناك، ستجد الضباب دائمًا يخيم على الأجواء، والكلّ يشرب القهوة -وليس الشاي كالعادة-، والقطارات والتلغرافات تحيا جنبًا إلى جنب مع العربات التي تجرّها الأحصنة. كما أن شيرلوك يفشل أحيانًا، وهو ما يضفي لمسةً واقعيةً على السلسلة، خاصةً مع أسلوب آرثر كونان دويل الذي يجعلك تكاد ترى وتسمع أحداث القصة، ويعرض على لسان بطله شيرلوك الكثير من الملاحظات الثاقبة عن المجتمع، والناس، والحياة. أضف إلى ذلك الخليط صداقة شيرلوك الرائعة مع واطسن، وشخصيات رجال سكوتلانديارد الطريفة، وغريمه اللدود موريارتي، وعددًا من الشخصيات التي لا تنسى، والحوار بالغ الطرافة، لتحصل على بعضٍ من أمتع ما كتب في الأدب الإنكليزي.

المحقق العزيز شيرلوك هولمز في جلسته الأيقونية وهو يفكر في حل قضية ما!
  • تستطيع قراءة الكثير من قصص شيرلوك هولمز الكاملة مترجمة إلى اللغة العربية مجانًا ضمن إصدارات مؤسسة هنداوي الإلكترونية، ستجدها هنا.
    (ملحوظة: نص القصة الإنكليزي متاح ضمن المجال العام مجانًا ولا يخضع لحقوق النشر، أما الترجمة العربية للقصة فليست ضمن المجال العام. مؤسسة هنداوي تتيح إصداراتها مجانًا، لكن دور النشر الأخرى لا تسمح بذلك. احرص على شراء أو استعارة النسخ الأصلية من الكتاب حفظًا لحقوق دار النشر والمترجم).
  • يمكن الحصول على النصوص الأصلية لقصص شيرلوك هولمز (باللغة الإنكليزية) كاملة من مشروع غوتنبرغ.
  • يمكن الحصول على تسجيلات الكتب الصوتية المجانية (باللغة الإنكليزية) على موقع ليبريفوكس (وأنصحك بتسجيلات ديفيد كلارك، فهو أفضل من قرأ قصص شيرلوك هولمز حتى هذه اللحظة، ستجد تسجيلاته هنا).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *