آرثر كونان دويل، 1887 ~ 1927
تحذير: هذا المقال يحتوي على معلومات مفصلة عن أحداث السلسلة

مرحبًا بك أيها القارئ! المعذرة، لقد تأخرت مجددًا، فقد استغرق تحضير المعطف والقبعة المميزة والعدسة المكبرة وبقية الأغراض التي اتفقنا عليها بعض الوقت. أرى أنك مستعدٌ أيضًا. ممتاز! فاليوم يجب أن «نعيش الجو» تمامًا. هل انتهيت من قراءة الرسالة التي جاءتك منذ قليل؟ حان وقت أن تطلب مني أن أقرأها لك ثانيةً بصوتٍ عالٍ إذن! تمامًا كما يطلب شيرلوك هولمز دائمًا من صديقه واطسن أن يقرأ له الرسائل ومقالات الجرائد ثانيةً بصوتٍ عال، بعد أن يفرغ هو من قراءتها. يبدو من الرسالة أنّ أحدهم قد كلّفنا بمهمةٍ خاصة: أن نعرف سبب تفوق شيرلوك هولمز على جميع زملائه من نجوم أدب الجريمة، واحتفاظه بشعبيته الساحقة عبر السنوات الطويلة، حتى أصبح رمزًا للمحققين في الثقافة الشعبية حول العالم. هممم… لن تكون مهمتنا سهلة! لو كان شيرلوك هنا لقال إنها قضيةٌ تتطلب ثلاثة غلايين على الأقل، فهولمز يقيس صعوبة القضية بعدد المرات التي يملأ فيها غليونه ليدخن عند التفكير في حلّها، لكنني لست من هواة التبغ ولا أطيق رائحته. هممم، إنها قضية ربع كيلوغرام من اللب الأسمر وثمن كيلوغرام من اللب الأبيض إذن!

لكن من أين نبدأ بحثنا؟ يحذر هولمز دائمًا من خطورة القفز إلى النتائج أو محاولة التخمين قبل جمع البيانات اللازمة أولًا. لتكن نقطة انطلاقنا إذن هي جمع البيانات اللازمة للتعرف على شيرلوك هولمز وعالمه. وإذا تفضلت باستدعاء عربة أجرة يجرّها حصانٌ عفي، عزيزي القارئ، لانطلقنا من فورنا في شوارع لندن نشق الضباب الكثيف حتى نصل إلى المكان الذي بدأ فيه كلّ شيء: المختبر، وسوف أخبرك ببقية التفاصيل في الطريق.
إن لندن مدينةٌ رائعةٌ حقًّا، لكنّ أسعار الإيجار فيها ليست كذلك! هذا ما أدركه جون واطسن، الطبيب العسكري الذي تقاعد وعاد إلى لندن بعد إصابته في أفغانستان. شكا واطسن إلى أحد أصدقائه ذات يوم معضلة العثور على سكنٍ مناسبٍ بسعرٍ مناسب، فرد صديقه قائلًا: «أنت ثاني رجلٌ يخبرني بذلك اليوم!». حكى له صديقه عن رجلٍ من معارفه اسمه شيرلوك هولمز يبحث عن شريك سكنٍ يدفع معه مناصفةً إيجار شقةٍ تعجبه لكنه لا يستطيع أن يتحمل كلفتها وحده. أثارت هذه المعلومة اهتمام واطسن، فطلب أن يقابل السيد هولمز في أقرب فرصةٍ ممكنة ليناقشا الأمر معًا، فاصطحبه صديقه إلى المكان الذي لا يفارقه شيرلوك تقريبًا: المختبر. وفي طريقهما إلى هناك، سأل واطسن صديقه عن رأيه في هولمز. «لا يعيبه شيء، صحيحٌ أنّ أفكاره غريبةٌ إلى حد ما، وأن ميوله علميةٌ أكثر من اللازم، لكنه -فيما أعلم- رجلٌ محترم. لا أعرف المجال الذي ينوي التخصص فيه، مستواه متقدمٌ في التشريح، وهو كيميائيٌّ من الدرجة الأولى، وأبحاثه غريبةٌ لا تنتمي إلى منهجٍ محدد، كما أنّه يجمع معارف متنوعةً غير مألوفةٍ يثير بها دهشة أساتذته». ها قد وصلنا! تعال لنتظاهر أننا نجري بعض التجارب في ركن المختبر بينما نراقب ما يحدث. نحن الآن على وشك أن نشهد لحظةً أيقونيةً في تاريخ الأدب! لحظة اللقاء الأول بين السيد شيرلوك هولمز ود. جون واطسن.
❞شيرلوك: مرحبًا بك! أرى أنك كنت في أفغانستان.
واطسن: وكيف لك أن تعرف هذا بالله عليك؟! ❝
دار بينهما حوارٌ قصير، وشعر كلٌّ منهما أنه قد وجد رفيق السكن المناسب، وبدآ الحديث في ما يهم:
❞شيرلوك: تعجبني شقةٌ في شارع بيكر، وسوف تناسبنا تمامًا. أرجو ألا تكون ممن تزعجهم رائحة التبغ القوي..
واطسن: أنا نفسي أدخن دائمًا…
شيرلوك: جيد! غالبًا ما أجلب المواد الكيميائية معي، وأحيانًا أجري التجارب أيضًا. هل يزعجك هذا؟
واطسن: مطلقًا!
شيرلوك: لنر… ما هي عيوبي الأخرى.. تنتابني حالة من الخمول أحيانًا، وقد لا أتفوه بكلمة واحدة لعدة أيام متواصلة. يجب ألا تسيء فهمي فتظنّ أنني سيء المزاج عندما أفعل هذا، بل اتركني وشأني فحسب وستجد أنني سأكون بخير حال سريعًا. والآن، ماذا لديك لتعترف به؟ من الأفضل لأي اثنين أن يعرف كل منهما عيوب الآخر قبل أن يبدآ في العيش معًا ❝
وهكذا أصبح محققنا الشاب وزميله الطبيب العسكريّ المتقاعد شريكي سكن في الشقة صاحبة العنوان الأشهر في عالم الأدب: 221ب شارع بيكر، لندن.

(متحف شيرلوك هولمز)
مع مرور الأيام، ازداد فضول واطسن تجاه رفيقه في السكن. فشيرلوك هولمز رجلٌ غريب الأطوار بلا شك. عندما تجتاحه موجة النشاط، يظل عاكفًا على العمل والدراسة والقراءة لأيامٍ دون راحةٍ أو نوم تقريبًا، ثم تضربه موجةٌ من الكسل، فيظل مستلقيًا على الأريكة لأيام طوال لا يكاد يتحرك أو يتفوه بكلمة. وهو يجيد عزف الڤيولين، كما أنه حادّ الذكاء، سريع البديهة، تتسع ثقافته أحيانًا إلى حد مذهل، وتضيق أحيانًا أخرى إلى حد صادم. انظر كيف ينظر إليه واطسن في غير تصديق بعد أن اكتشف -مصادفة- أن شيرلوك لم يسمع بنظرية كوبرنيكوس من قبل، ولا يعرف أن الأرض تدور حول الشمس!
❞شيرلوك: أراك متعجبًا. الآن وقد عرفت هذه المعلومة، فسوف أبذل قصارى جهدي كي أنساها.
واطسن: تنساها؟!
شيرلوك: أرى أن عقل الإنسان يشبه مخزنًا صغيرًا فارغًا، ويجب أن تؤثثه بما تختاره من متاع. والأحمق فقط هو من يجمع كل شيء يجده، حتى لا يجد مكانًا للمعرفة المفيدة له حقًّا، أو تضيع وسط ركام الأشياء الأخرى فيصعب عليه الوصول إليها.
واطسن: لكن.. المجموعة الشمسية!
شيرلوك: وما قيمتها بالنسبة إليّ؟ أنت تقول إننا ندور حول الشمس. لو كنا ندور حول القمر، لما كان لذلك أي تأثير عليّ أو على عملي ❝
عمله! لكن ما هو عمله بالضبط؟ هذا هو السؤال الذي كاد يثير جنون واطسن، فهو لم يقرأ السلسلة مثلنا، ولذلك يجهل أن شيرلوك يعمل في مجال التحقيق. ولعلك تتساءل: لم لا يسأله عن عمله فحسب؟ لا تنس أن واطسن رجلٌ إنكليزيٌّ أصيل، أي أنه مصابٌ بضمورٍ في مراكز المخّ المسؤولة عن تعبير المرء عما يريد قوله أو السؤال عنه بصورة مباشرة، كان يشعر أنه ليس من الأدب أن يسأل هولمز عن عمله طالما لم يتطوع هو بإخباره. ولذلك جلس يكتب قائمةً طويلةً بما يعرفه عن دراسات هولمز ومهاراته، في محاولة لتخمين مهنته هذه.

لا يعرف شيرلوك أيّ شيءٍ تقريبًا عن الأدب أو الفلسفة، وآراؤه في النظام الشمسي لا تنبئ بخبرةٍ كبيرةٍ في علم الفلك، إن أردت رأيي. معلوماته عن السياسة ضحلةٌ للغاية، وهو خبيٌر في النباتات -ولا سيما المخدرة والسامة منها-، لكنه لا يفقه شيئًا في البستنة… هممم.. اهتماماته الجيولوجية غريبةٌ نوعًا، فهو ليس ضليعًا في العلوم الجيولوجية، لكنه يستطيع أن يخبرك في أي منطقة من لندن كنت تسير بنظرةٍ واحدة إلى آثار الطين على أطراف سروالك أو حذائك. أما في الكيمياء، فهو خبير لا يشقّ له غبار. دراساته المطولة في التشريح جعلته دقيقًا في هذا المجال، وإن كان لا يدرسه دراسة نظامية، فيركز على أشياء معينةٍ ويهمل أخرى تمامًا، ثم لا تنس أنه ملم بتاريخ الجريمة أيضًا. كما أنه يجيد أنواعًا متعددةً من القتال، ويعرف القانون البريطانيّ جيدًا. عندما وصل واطسن المسكين إلى هذه النقطة في القائمة التي أعدها، مزقها من شدة الغيظ، فلا يوجد مهنةٌ محترمةٌ -أو غير محترمة- يمكن استنتاجها من كل هذه الـ”خلطبيطة” من المعارف والمهارات.
لكنّ لحظة الحقيقة حانت أسرع مما كان يظن. ففي صباح أحد الأيام، قرأ واطسن مقالًا في الجريدة بعنوان «كتاب الحياة»، أوضح فيه الكاتب الأشياء المذهلة التي يستطيع الملاحظ الدقيق أن يعرفها من خلال الفحص المنهجيّ لكل ما حوله. أثار المقال حفيظة واطسن وغيظه أيضًا، فقد رأى أن الكاتب هو أحمقٌ متفلسفٌ كتب مقالةً نظريةً أنيقةً لا أساس لها في الواقع العملي. أخبره شيرلوك أنه هو من كتب المقال، وأنه يؤمن بكل حرفٍ فيه لأن هذا هو أساس عمله. وهنا، لم يتحمل واطسن، فسأله -دون تفكير- عن ماهية ذلك العمل. فأجابه شيرلوك:
❞لدي مهنةٌ خاصةٌ بي، وأنا أظنّ أنني الوحيد الذي يمتهنها في العالم. أنا محقق استشاري، إن كنت تفهم ما أعنيه. عندما يتحير محققو الشرطة والمتحرون الذين يعملون لحسابهم الخاص يأتون إليّ، فأضعهم على الطريق الصحيح ❝
تشكك واطسن في كلام صاحبه، فكيف له أن يعرف -وهو جالس في غرفته- ما عجز عنه المحققون الذين درسوا تفاصيل القضية وأشبعوا مسرح الجريمة فحصًا؟ لكن شيرلوك راح يؤكد أنه الأفضل، لأنه الوحيد الذي جمع بين الموهبة الطبيعية في الملاحظة والتحري مع سنين من الدراسة المنهجية والتدريب المستمر، وقال:
❞ما فائدة الذكاء في مهنتنا هذه؟ لا يوجد جريمة لأحقق فيها، والجرائم الموجودة جرائم تافهة ذات دوافع واضحةٍ للغاية يقدر أي محقق شرطة على حلها! ❝
لم يقتنع واطسن بكل هذا، وشعر بالحنق من غرور هولمز وثقته الزائدة عن الحد في قدراته. ثم أتته فرصةٌ ذهبيةٌ ليتأكد بنفسه من ادعاءات صاحبه، ويراقب عمله المثير عن قرب، وذلك عندما دعاه شيرلوك إلى مرافقته في إحدى تحقيقاته. بنهاية التحقيق، كان واطسن قد اقتنع تمامًا بعبقرية صاحبه في الاستدلال والاستنتاج، حتى أنه أخبره ذات مرة أنه لو كان عاش قبل عدة قرون لحرقوه بتهمة ممارسة السحر! فمن يصدق أنه يصل إلى نتائجه المذهلة عن طريق الملاحظة والاستدلال فحسب؟
تأثر واطسن كثيرًا بمغامرته الأولى مع شيرلوك هولمز، فدونها في مقال نشره بعنوان «دراسة في اللون القرمزي»، وهو عنوان القصة الأولى في السلسلة أيضًا، وقد حقق مقاله نجاحًا كبيرًا، فبدأت شهرة محققنا العزيز في الانتشار.

«دراسة في اللون القرمزي»
عرفنا إذن كيف بدأت مغامرات شيرلوك هولمز، لكن ما هي تلك المعارف التي اختار أن يملأ بها «قبوه الفكري» -على حد تعبيره- معتبرًا إياها أهمّ من نظرية كوبرنيكوس ذاته؟ أغرق شيرلوك نفسه في دراسات مفصلة عن الأشياء التي قدر أنها ستفيده في تحويل ملاحظاته إلى استنتاجات دقيقة، ولذلك نجده قد درس -وكتب مقالاتٍ مفصلةً أيضًا- عن مواضيع شتى، مثل الاختلافات بين 140 نوعًا من أنواع التبغ، والرماد الذي يخلفه كلّ نوع منها –وبهذا يستطيع أن يميز آثار أي تبغ في مسرح الجريمة-، كما درس أثر كلّ مهنةٍ في تغيير شكل يد صاحبها، وكيفية تحليل آثار الأقدام على الثلوج والطين، وأنواع الوشوم المختلفة، وكيفية تأريخ المخطوطات بالعين المجردة، والاختلافات بين أنواع الورق المختلفة ومصدر كل منها، وما إلى ذلك. كما أن معرفته باللغات أيضًا لا بأس بها أبدًا، ففي مغامرة «فضيحة في بوهيميا» استطاع أن يعرف على الفور من طريقة صياغة الجمل أنّ الشخص الذي أرسل إليه رسالةً باللغة الإنكليزية هو ألماني ولا شك، لأن «الألماني فقط هو من يعامل أفعاله بهذه الفظاظة».
وقد شرح لنا شيرلوك في «مغامرة علامة الأربعة» منهجه الاستدلالي بالتفصيل، حين أوضح أنه يتكون من الملاحظة، والمعرفة، والاستنتاج. والملاحظة هي أول الخيط، فكما يقول شيرلوك دائمًا: «أنت أيضًا ترى، لكنك لا تلاحظ يا عزيزي واطسن»، انظر إلى هذه القبعة، مثلًا، لو سئلنا عنها لقلنا إننا نرى قبعةً زرقاء، وربما نستخلص أنها قديمةٌ من هيئتها، وانتهى الأمر. لكن شيرلوك لا يكتفي بمجرد الرؤية مثلنا، بل يلاحظ أن بها خدشًا صغيرًا جدًا على الجانب، ولأنه جمع معارف شتى كما ذكرنا منذ قليل، سيعرف على الفور أنّ ذلك الخدش نتج من مفتاحٍ نحاسي بالذات، وليس أي شيء آخر، وقد يستطيع حصر الأماكن التي تستخدم هذا النوع من المفاتيح النّحاسية، ومن هاتين الخطوتين سيصل شيرلوك إلى استنتاجٍ أكثر تركيبًا وتعقيدًا بنهاية غليونه الأول، بينما نظل نحن نتأمل القبعة ونحن نستهلك أطنانًا من اللب دون أن نصل إلى شيء!
ولا تخلو جعبة شيرلوك هولمز من بعض القواعد التي أرساها لنفسه كوسائل مساعدةٍ أثناء عملية الاستنتاج، مثل القاعدة التي تقول إن التاريخ يعيد نفسه، ولذلك لا توجد جرائم جديدة، فكلّها تنويعاتٌ على ما حدث في الماضي بالفعل. وأيضًا قاعدة أن الاستثناء يدحض أي قاعدة، ولا يؤكدها كما يقال. وماذا يفعل إذا وصل إلى نهاية خطوات الاستدلال ووجد أكثر من تفسيرٍ محتمل؟ هنا يأتي دور قاعدة أخرى، هي «طالما استبعدت المستحيل فما يتبقى لديك –مهما بدا مستبعدًا- هو الحقيقة». وبهذا يستبعد كل الفرضيات التي قد تبدو أكثر منطقيةً للوهلة الأولى -فالحقائق البديهية الواضحة هي أكثر الأشياء خداعًا وتضليلًا كما يخبرنا هولمز- حتى تبقى نظريةٌ واحدةٌ فقط توافق جميع التفاصيل والمعطيات، فيختارها مهما بدت غريبة أو صادمة.
لكن إلى أي حدٍّ تبلغ براعته؟ تعال لنسترق السمع بينما يحاول واطسن اختبار مهارة صاحبه. «لقد سمعتك تقول من قبل إنه من الصعب أن يستخدم المرء شيئًا ما بشكل يوميّ دون أن يترك عليه أثرًا شخصيًا تستطيع العين المدربة ملاحظته. لقد حصلت على ساعة الجيب هذه مؤخرًا، هلا أخبرتني عن شخصية مالكها السابق أو عاداته؟». شكا هولمز من أن الساعة قد نظفت حديثًا، مما يحرمه من الكثير من الـ«بيانات» اللازمة، لكنه أخذ يتفحصها على أي حال، إلى أن قال إنه لم يستطع أن يستنتج إلا أن الساعة كانت ملكًا لشقيق واطسن الأكبر، وقد ورثها عن والده، وأن شقيق واطسن هذا كان رجلًا مهملًا مستهترًا، كانت فرصه جيدة في الحياة، لكنه أهدرها فعاش حياة فقر تخللتها فتراتٌ من الترف، قبل أن يدمن معاقرة الخمر، إلى أن مات. لكن كيف..؟؟!! «إنها البساطة ذاتها، يا عزيزي واطسن»… ما يغيظ في الأمر هو أنه محق، فالأمر بسيط فعلًا… الساعة هي ساعة قيمةٌ ثمينة توارثتها عائلة واطسن، وآلت إلى الابن الأكبر كجزء من ميراث والده، والجزء الأكبر من الإرث يؤول إلى الشقيق الأكبر، كل هذا واضحٌ من حروف الاسم المنقوشة عليها من الخارج. لكن رغم كلّ ذلك، تجدها مليئةً بالخدوش والانبعاجات، مما يدل على أنها كانت توضع بكل إهمال في جيب صاحبها إلى جانب العملات المعدنية وغيرها من الأغراض، ومعاملة غرض ثمين قيم كهذا بهذا الاستهتار لا يدل على شخصيةٍ منظمةٍ حريصةٍ إن أردت رأيي، ثم هل ترى الأرقام الدقيقة المنقوشة في الداخل؟ هذه هي الأرقام التي يحفرها أصحاب مكاتب الرهونات على الأغراض المرهونة لديهم، يوجد ما لا يقل عن أربعة أرقام من هذه الأرقام الدقيقة، أي أن الساعة قد رهنت أكثر من مرة خلال حيازة الشقيق الأكبر لها، وهو ما يدل على أنه مر بفتراتٍ عسيرة في حياته، وينبئنا أيضًا بفترات من اليسر، لأنه استطاع أن يستعيدها من مكاتب الرهونات مرارًا وتكرارًا كلما استطاع توفير بعض المال. أما اللوح الداخلي الذي يحوي ثقب مفتاح ملء الساعة، فستجد أنّ الخدوش تملأه، وهي علامةٌ تميز السّكارى الذين لا يستطيعون أن يوجهوا المفتاح الدقيق في ثقبه من المحاولة الأولى، وكثرة هذه الخدوش تنبئنا أنه كان يعاقر الخمر كثيرًا وباستمرار. وبما أن ساعة العائلة آلت إلى طبيبنا الشاب جون واطسن، فهذا يعني أن شقيقه لم يعد على قيد الحياة. أرأيت؟ البساطة ذاتها! لكن لا تبالغ في التعبير عن بساطة الأمر أمام شيرلوك، فأحيانًا، عندما يشرح هولمز خطّ سير «قطار أفكاره» على حد تعبيره، يشعر الناس أنّ الأمر بسيطٌ فعلًا، لا يتطلب أيّ عبقريةٍ أو مهارة غير عادية، وهو أمرٌ يسره ويثير غيظه في الآن ذاته، فيهدد -مازحًا- أنه لن يشرح لنا مجددًا كيف يصل إلى استنتاجاته.
إن شيرلوك هولمز بارعٌ إذن، وهو يعرف أنه بارع. لكن، هل هو متكبرٌ مغرورٌ كما يقولون؟ لا أظن. صحيحٌ أنه يشكو دائمًا من غباء الناس -الأخيار والأشرار على حد سواء- ومن عجزهم عن إدراك ما يبدو له بديهياتٍ واضحة، ويؤكد على براعته وذكائه، لكنك إن عرفته جيدًا ستدرك أنه ليس مغرورًا. فهو لا يجد أيّ غضاضةٍ في الاعتراف بأخطائه والضحك من هفواته، ويسعد بتفوق الآخرين، ولا يضايقه النقد -أو حتى السخرية- أبدًا. كما أنه لا يتردد في الاعتراف بتفوق شقيقه مايكروفت عليه في مهارات الملاحظة والاستنتاج، ولا يجد أي حرجٍ في أن يطلب مساعدته أيضًا عندما يقدر أنها ضرورية. وبالحديث عن مايكروفت، ألم تلاحظ أنه لا يقلّ غرابةً عن شيرلوك؟ فهو رجلٌ عبقري كما شهد له شيرلوك نفسه، لكنه كسولٌ إلى حد لا يصدق، فهو لا يتحمل فكرة أن يستقصي الحقائق ليتأكد من صحة ملاحظاته، أو أن يدخل في مناقشاتٍ مع الآخرين لمحاولة إقناعهم بأي شيء، بل يفضل أن يظنّ الناس أنه على خطأ طالما سيتركونه وشأنه في ناديه الهادئ حيث يجلس طوال اليوم. ولا يملك القارئ إلا أن يبتسم وهو يتابع الحوار بين الشقيقين وتباريهما في الاستنتاج، لكن مايكروفت لم يشارك إلا في قصتين فقط للأسف الشديد. على أي حال، نستطيع أن نقول إن شيرلوك ليس مغرورًا، لكنه ليس متواضعًا أيضًا. وهو لا يعامل مسألة الغرور والتواضع بوصفها مسألةً أخلاقية، بل بوصفها مسألةً عقلية فكرية. ألا تذكر عندما قال لواطسن: «لا أتفق مع هؤلاء الذين يعدون التواضع فضيلة من الفضائل. فالمفكر المنطقي يجب أن يرى كل الأشياء كما هي تمامًا، وتقليل المرء من قدر ذاته لا يقل بعدًا عن الحقيقة من مبالغته في تقدير قدراته».

تعال لنطبق بعضًا مما تعلمنا من شيرلوك هولمز في تحقيقنا عنه، إذا كان المرء يترك آثارًا مهمة من شخصيته وعاداته على الأغراض التي يستخدمها بشكل يومي، فلا بد أن جولةً في منزل شيرلوك ستخبرنا بالكثير عنه. إن شيرلوك في مهمةٍ خارج المدينة ولن يعود اليوم، إنها فرصتنا. لنخفض صوتنا حتى لا تسمعنا السيدة هدسون -مالكة المنزل- فتكتشف أمرنا. لا، هذه هي غرفة واطسن، لنعبر الصالة المشتركة إلى غرفة هولمز، ها نحن ذا! لكن ما هذا؟ ما هذه الفوضى؟
آه! ها هو الخفّ الفارسيّ الذي يحتفظ فيه شيرلوك بالتبغ الخاصّ به، تمامًا عند الجزء الخاص بالإصبع الكبير كما يعرف قراء هولمز المخضرمون! أما السجائر، فستجدها هنا في سطل الفحم. والرسائل التي لم يقرأها بعد، يثبتها كلها بمطواة فوق رف المدفأة الخشبي، كما ترى! أما هذه الثقوب البشعة التي تشكل صورة الرمز الوطني على الجدار، فقد رسمها شيرلوك برصاصات مسدسه أثناء تدريب رماية! داخل غرفته! هذا بالإضافة إلى أكوام الأوراق المكدسة في كل مكان، لأن شيرلوك لا يستطيع مفارقة أيٍّ من أوراقه أو مستنداته القديمة. ترى ماذا يوجد في هذا الدرج؟ آه! قراء شيرلوك يعرفون ما تحويه هذه الحافظة الجلدية جيدًا، إنه الكوكايين! فهولمز -كلما هاجمته موجةٌ من الكسل أو توقف العمل لفترة طويلة- يلجأ إلى الكوكايين، ولا يترك ذلك المنشط الخارجي السام إلا عندما تأتيه قضية تنشط عقله بشكل طبيعي. ولطالما وبخه واطسن موضحًا خطورة هذه العادة، لكن منذ متى يطيع هولمز الآخرين؟ لنواصل تفتيشنا. لكن لحظة، أهلًا أهلًا! ما هذا؟ هل ترى هذه الصورة المؤطرة على الطاولة؟ إنها تظهر سيدةً جميلة، جميلة جدًا إن أردت رأيي، ترى من تكون؟ هل هي حبيبته؟ لكن شيرلوك يشعر بغيظ عام من الجنس اللطيف كما تعلم، وهو أقرب إلى الآلة منه إلى البشر، كما يقولون… لكن هل هذا صحيح؟ أليس له أصدقاء غير واطسن؟ وماذا عن رجال سكوتلانديارد، كيف هي علاقته بهم؟ ولماذا لا ينضمّ إليهم فيعمل بصفة رسمية؟ هل هزم شيرلوك من قبل؟ هل وجد مجرمًا يماثله في الذكاء والحيلة؟ وكيف انتهت السلسلة؟ والأهم من ذلك: هل سنستطيع التوصل إلى إجابة سؤالنا الأولي؟ قابلني هنا في الحلقة القادمة في مثل ذلك الوقت أمام الشقة 221ب شارع بيكر، لندن، لنواصل تحرياتنا عن شيرلوك. آه! ولا تنس إحضار اللب!
- تستطيع قراءة الكثير من قصص شيرلوك هولمز الكاملة مترجمة إلى اللغة العربية مجانًا ضمن إصدارات مؤسسة هنداوي الإلكترونية، ستجدها هنا.
(ملحوظة: نص القصة الإنكليزي متاح ضمن المجال العام مجانًا ولا يخضع لحقوق النشر، أما الترجمة العربية للقصة فليست ضمن المجال العام. مؤسسة هنداوي تتيح إصداراتها مجانًا، لكن دور النشر الأخرى لا تسمح بذلك. احرص على شراء أو استعارة النسخ الأصلية من الكتاب حفظًا لحقوق دار النشر والمترجم). - يمكن الحصول على النصوص الأصلية لقصص شيرلوك هولمز (باللغة الإنكليزية) كاملة من مشروع غوتنبرغ.
- يمكن الحصول على تسجيلات الكتب الصوتية المجانية (باللغة الإنكليزية) على موقع ليبريفوكس (وأنصحك بتسجيلات ديفيد كلارك، فهو أفضل من قرأ قصص شيرلوك هولمز حتى هذه اللحظة، ستجد تسجيلاته هنا).
من تقدم الي تقدم يا لاولا..روعه
لولا