الأب الروحي – The Godfather

ماريو بوزو، 1969

تحذير: هذا المقال يحتوي على معلومات مفصلة عن القصة ونهايتها

مرحبًا بك أيها القارئ! لقد تأخرت عليك كثيرًا هذه المرة أيضًا، وأنا أعتذر! لقد كنت منشغلةً تمامًا إلى حدّ الانسحاق في الـ… لكن ما بك أيها القارئ؟ لماذا تبدو مهمومًا هكذا؟ ماذا؟! تقول إن رجلًا ذا نفوذ خدعك؟ لا تقلق إذن! فأنا أعرف إلى أين يجب أن نذهب. 

لا أنصحك باللجوء إلى المحكمة، وإلّا سينتهي بك الأمر وقد «لبست العمة» كما يقولون، تمامًا كما حدث مع الحانوتي أمريغو بوناسيرا. ماذا نفعل إذن؟ نفعل ما فعله أمريغو بوناسيرا بالطبع! سوف نذهب إلى دون فيتو كورليوني لنطلب منه تحقيق العدالة. نعم، أنا أقصد الصقليّ الشهير دون فيتو كورليوني صاحب أكبر شركة لاستيراد زيت الزيتون الإيطالي في الولايات المتحدة، لكنه ليس مجرد تاجر زيت زيتون، فهو من أكبر زعماء المافيا في تاريخ نيويورك!

لن تكون الوحيد الذي يطلب من الدون خدمةً اليوم، فهو يوم زفاف ابنته، والكلّ يعرف أنّه لا يوجد صقليّ يرفض أداء خدمة في يوم كهذا. لا تقلق! فالدون لا يقبل المال لقاء خدماته. كلّ هؤلاء الحضور من مدعوين وطهاة ومقدمي خدمات على اختلاف أعمارهم ومستوياتهم الاجتماعية من أتباع دون كورليوني المخلصين. ها قد جاء بنفسه يحيي الجميع بحرارة وتواضع مدهش كعادته. لماذا تبدو محبطًا؟ هل كنت تنتظر ظهور رجل مفتول العضلات بقوى خارقة؟ ستجد بين الحضور رجالًا ضخامًا بالغي الخطورة، مثل لوكا برازي القاتل المأجور الأسطوريّ، لكن حتى لوكا برازي لا يستطيع إخفاء توتره في حضرة دون فيتو كورليوني.

تعال لأقدم لك أبناء دون كورليوني أولًا. هذا هو سانتينو أو سوني كورليوني، أكبر أبناء الدون، وقد ورث طيبة قلب والده، لكنه لم يرث صبره أو رزانته. فهو -رغم قلبه الكبير- مندفع، عنيف، سريع الغضب. أما هذا الشابّ الخجول فهو فريديريكو كورليوني، الابن المثاليّ البارّ الذي يحلم به كلّ أبوين إيطاليين، وقد ورث عن أبيه التواضع والاهتمام بالناس، لكنّه لم يرث شجاعته وقوة شخصيته للأسف. أما الابن الأصغر، فسوف نضطرّ إلى السير حتى آخر ركن من أركان الحديقة حتى نراه، إنه مايكل كورليوني، الوحيد الذي تجرأ على تحدّي والده صراحةً. ورث مايكل دهاء والده وذكاءه الحادّ، لكنّه لم يرث لطفه ولا ذكاءه في التعامل مع الناس. كان مايكل يرفض تمامًا الانخراط في أعمال «زيت الزيتون» بأيّ شكل، وظلّ يؤكد بكلّ طريقة ممكنة أنّه مواطن أمريكيّ صالح يختلف عن بقية أفراد أسرته. حتى أنه التحق بقوات المارينز تطوعًا أثناء الحرب، وعاد بطلًا محمّلًا بالأوسمة، وهو ما أسقطه من حسابات دون كورليوني تمامًا، فهو يؤمن أن الولاء إنّما يكون للعائلة، وهي أهم قيمة في الوجود، وربما للأصدقاء أيضًا، فكيف يرفض مايكل القتال من أجل العائلة، ويضحي بحياته من أجل بلد؟ إنها خيانة عظمى! ثم إنّه اختار لنفسه حبيبةً أمريكيةً عصريةً لا تمتّ بصلة للزوجة الصقلية التقليدية التي تتوقعها عائلته.

لقد انسحب الدون إلى مكتبه كي يلتقي بأصحاب المطالب المختلفة واحدًا واحدًا، يكسر رهبتهم بدعاباته وابتسامته، وذراعه التي يحيط بها كتف محدثه. لقد جاء دور الحانوتيّ أمريغو بوناسيرا أخيرًا. كان صوته يقطر مرارةً وهو يروي لدون كورليوني كيف حاول شابان عابثان الاعتداء على ابنته، وكيف أوسعاها ضربًا حتى تحطم وجهها الجميل تمامًا حين قاومتهما. وارتجف صوته قهرًا وهو يحكي كيف أوقفت المحكمة تنفيذ الحكم ضدّهما بسبب نفوذ والديهما. أطرق الدون رأسه تعاطفًا مع ألم بوناسيرا، لكنّه رفض طلبه بأن يقتل الشابين. فقال بوناسيرا: «سوف أدفع لك أيّ مبلغ تريد» بوناسيرا! بوناسيرا! يالك من أحمق!

الصورة الأيقونية لدون فيتو كورليوني
من فيلم “الأب الروحي / العراب”

❞ دون كورليوني: «خلال السنوات الطويلة التي عرفتني فيها، لم تأت لاستشارتي أو لطلب مساعدتي ولو لمرة واحدة. لا أذكر آخر مرة دعوتني فيها على كوب قهوة في منزلك. لنتحدث بصراحة. لقد ازدريت صداقتي، لقد خشيت أن تكون مدينًا لي»
بوناسيرا: «لم أرد التورط في المشاكل…»
= «لا. لا تتكلم. لقد وجدت أمريكا جنة، فلم تسلح نفسك بالأصدقاء الحقيقيين، فالشرطة تحميك على أي حال، والمحاكم موجودة أيضًا. أنت لم تحتج إلى دون كورليوني. لا بأس. لقد جرحت مشاعري، لكنني لا أفرض صداقتي على الذين لا يقدرونها. والآن تأتيني وتقول: “دون كورليوني حقق لي العدالة”. وأنت لا تطلب ذلك باحترام، ولا تعرض عليّ صداقتك، بل تأتي إلى بيتي في يوم زفاف ابنتي وتطلب مني أن أرتكب جريمة قتل وتقول: “سوف أدفع لك”! ماذا فعلت لك كي تهينني بهذا الشكل؟»
– «لقد أحسنت إليّ هذه البلاد، أردت أن أكون مواطنًا صالحًا، أردت لابنتي أن تكون أمريكية»
صفق دون كورليوني بكفيه موافقًا وقال: «أحسنت قولًا. رائع. ليس لديك ما تشكو منه إذن. لقد حكم القاضي، لقد حكمت أمريكا. اشتر لابنتك الزهور والحلوى عندما تزورها في المستشفى كي تخفف عنها. وانس هذا الجنون، فهو ليس أمريكيًا. سامح، وانس، فالحياة مليئة بالمآسي على أي حال»
– «أنا أطالبك بالعدالة»
= «لقد منحتك المحكمة العدالة»
– «بل منحتها للشابين، وليس لي»
= «وما هي عدالتك؟»
– «العين بالعين»
= «لقد طلبت ما هو أكثر، فابنتك لا تزال حية»
– «كن صديقي. أنا أقبل. اجعلهم يعانون كما تعاني هي».
وضع دون كورليوني ذراعه حول كتفي بوناسيرا وقال:
= «في يوم ما، وذلك اليوم قد لا يأتي أبدًا، سوف أزورك لأطلب منك ردّ الجميل، وإلى ذلك اليوم، اعتبر هذه العدالة هدية» ❝

بعد أيام قليلة، حصل بوناسيرا على عدالته المنشودة. لا، لن يستطيع أحد أن يثبت أنّ دون كورليوني هو المسؤول عن «عجن» الشابين المتهمين وتشويه وجهيهما إلى الأبد كما فعلا بالفتاة، فأوامره تنتقل خلال عدة فلاتر وسلاسل غير متصلة لا يمكن ربط أيّ منها به. لم يكن أمريغو بوناسيرا الوحيد الذي حصل على ما تمناه ذلك اليوم، ولكنّ مطلبه كان بسيطًا، على خلاف طلب جوني فونتاني، وكان دون كورليوني قد ساعده قبل سنوات على بدء العمل في هوليود كمطرب وممثل، وتمثلت مساعدته في أنه عرض على صاحب الستوديو عرضًا لا يستطيع رفضه: إما أن تستقر رصاصة في مخّه أو يستقر توقيعه على عقد قبول جوني فونتاني مقابل مبلغ مجز خلال مهلة تبلغ ستين ثانيةً لا أكثر. لكنّ ما أراده فونتاني هذه المرة هو أن يلعب دور البطولة في فيلم ضخم، وكان العائق الأساسيّ هو أنّ صاحب الستوديو -وهو رجل ذو نفوذ وصديق شخصيّ لإدغار هوفر رئيس مكتب التحقيقات الفيدرالية المرعب الشهير- كان يكره جوني كراهيةً شديدة، وقد أقسم ألا يسمح له بالعمل معه. أرسل دون كورليوني مستشاره كي «يتفاهم» معه. والتفاهم في قاموسه ينتهي إما باقتناعك وإما برصاصة في رأسك كما تعلم.

أصرّ صاحب الستوديو على رفضه في البداية. لكنه «اقتنع» أخيرًا حين استيقظ ذات يوم في منزله الريفيّ الفاخر ليجد رأس حصانه المفضل -والذي كلفه ثروةً بالمناسبة- بجواره في الفراش غارقًا في دمه. كيف استطاعوا فصل رأس حصان قوي كهذا دون جلبة؟ لحظة! كيف وصلوا إلى اسطبله، إلى حجرة نومه، إلى فراشه دون أن يوقفهم أحد؟! لقد وصلته الرسالة، لقد «اقتنع» بالفعل، وحصل جوني فونتاني على مبتغاه.

وهكذا، ظلت الأمور تسير بوتيرتها المعهودة تحت مظلة شركة استيراد زيت الزيتون، إلى أن ظهر سولوتزو في الصورة. جاء سولوتزو يطلب من دون كورليوني أن يدعمه في عمليات استيراد المخدرات مقابل نسبة كبيرة من الأرباح، لكنّ دون كورليوني كان رجل مافيا صاحب مبدأ: لا بأس بالقمار والاحتكار والابتزاز والقتل، لكن لا دعارة، لا مخدرات. هذه أنشطة حقيرة تليق بتاتاليا والعصابات الأخرى. لكن رفضه لم يمر مرور الكرام.

كان مايكل كورليوني بصحبة صديقته الأمريكية عندما بلغه الخبر. كان أول ما وقعت عليه عيناه في الجريدة هو صورة لوالده الغارق في دمائه  وهو مستلق على الأرض. قرأ مايكل الخبر عدة مرات، لقد أطلق أحدهم النار على والده في الخامسة عصرًا، وهو الآن في المستشفى في حالة حرجة. هل قضى مايكل يومه بين المطاعم والمسارح ومغازلة صديقته بينما كان والده يواجه الموت إذن؟ ياللعار! شعر مايكل بموجة قوية من الشعور بالذنب تجتاحه. ترى هل سينجو دون كورليوني؟ إنه سؤال مصيري، ليس لاعتبارات عاطفية، بل لأن إطلاق النار على دون كورليوني يعني بدء حرب ضارية بين عائلات المافيا الخمس في نيويورك.

تولى الابن الأكبر، سوني كورليوني، زمام الأمور فورًا. كانت دماؤه الصقلية تغلي شوقًا للانتقام بأي ثمن، أما مايكل، فلقد رفض التنصل من أعمال العائلة هذه المرة. لقد بدأ المارد في أعماق مايكل كورليوني في التحرر. لقد أغضبه ما تعرض له والده، وأثر فيه رقاده في المستشفى فاقد الوعي أكثر مما كان يتوقع. الآن وقد رقد والده يصارع الموت، شعر مايكل بحبّ جارف تجاهه، وزاد من حدة مشاعره إحساسه بأنّ والده ما كان ليتلقى هذه الإهانة ويقع فريسةً لهذا الخطر إن لم يكن هو قد تخلى عنه ورفض معاونته. تذكر مايكل قلب والده الطيب، وكيف قاسى في شبابه كي يوفر لأبنائه حياةً كريمةً ومستقبلًا واعدًا. تذكر كيف كان زوجًا جيدًا وأبًا جيدًا وصديقًا جيدًا، وأدرك أنه لم يعرف رجلًا أجدر بالاحترام والحب من والده. لا. لن يتخلى عن والده هذه المرة. لكنّه لم يكن يريد الانخراط تمامًا في أعمال المافيا. لا بأس إذن، سوف يشارك في الأعمال البسيطة، يتلقى المكالمات الهاتفية، أو يقضي مشوارًا هنا، أو خدمةً بسيطة هناك، إلى أن تمر الأزمة، لا أكثر. لكن هل لاحظت العلاقة الوثيقة التي تربط بين سوني كورليوني ومستشار الدون؟ لقد لاحظها مايكل أيضًا، وشعر بالغيرة تخترق قلبه كنصل حادّ حين أدرك أنه لا يحظى بعلاقة قوية كهذه مع سوني رغم أنه شقيقه، وقد قطع هذا النصل المزيد من قيود المارد في أعماق مايكل كورليوني.

لقد أرسل الأعداء سمكةً ميّتةً ملفوفةً في سترة القاتل المحترف لوكا برازي، إنها رسالة صقلية قديمة تعني أن لوكا برازي -أحد أهم رجال إمبراطورية كورليوني- يرقد وسط الأسماك في قاع المحيط. مع كل يوم يمر كان الخناق يضيق أكثر، وكان تشكك مايكل في كفاءة إدارة سوني للموقف يزداد. ما العمل؟ ما العمل؟ إن سولوتزو ليس رجلًا عاديًا، والإيقاع به يتطلب خطوةً غير عادية. كاد مايكل يجن، إنه لا يريد التورط في كل هذا، لكنه لا يستطيع أن يبقى مكتوف الأيدي وهو يشاهد العائلة تنهار. ما زاد الطين بلةً، هو أنه كشف محاولةً حقيرةً لاغتيال والده داخل المستشفى. شعر لحظتها بكراهية لم يذق مثلها في حياته تجاه أعداء والده، وبغضب حاد قطع آخر قيود المارد القابع في أعماق مايكل كورليوني.

توجد قواعد مفهومة ضمنًا في عالم المافيا. ومنها أن رجال المافيا لا يهاجمون المدنيين المنتمين لعائلات المافيا الأخرى مطلقًا، ليس على سبيل الـ«جنتلة»، بل لأن هذا سيعرض المدنيين المنتمين للعائلة المنافسة لخطر الانتقام، في حرب لا ينتصر فيها أحد. ولهذا تحديدًا، وافق سولوتزو على لقاء مايكل للتوصل إلى هدنة ما. فمايكل كورليوني مدني في هذه الحرب. مايكل كورليوني لا ينتمي إلى المافيا. الكلّ يعرف ذلك. ولهذا تحديدًا، كانت الصدمة مذهلةً حين أخرج مايكل سلاحه في منتصف اجتماعهم في المطعم ليطلق النار في برود على سولوتزو ورفيقه كأي قاتل مافيا محترف. فاجأته النشوة التي شعر بها حين كان يتظاهر بالارتباك والتوتر كمدنيّ وجد نفسه متورطًا في محادثات المافيا، وأدهشه البرود والثبات الذي قتل بهما الرجلين.

ترى هل كان يعرف أن والده شعر بنفس الدهشة من قدراته المذهلة عندما اضطرّ لاستخدامها أول مرة؟ هرب فيتو كورليوني إلى الولايات المتحدة وهو في الثانية عشرة من عمره بعد أن قتلت المافيا والده في صقلية. كان هادئًا صموتًا لطيف المعشر، تزوج بمهاجرة صقلية في الولايات المتحدة، وكان يكسب عيشه من العمل في متجر صغير للبقالة، إلى أن ظهر رجل حقير اسمه فينوتشي في الصورة. كان فينوتشي يدعي صلته بمافيا آل كابوني، لكنّ فيتو كورليوني أدرك أنه مجرد «بلطجي» وضيع لا أكثر، يفرض إتاوات مرهقةً على أهل الحي كي يتركهم وشأنهم، وقد أرهقت إتاواته المتجر الذي يعمل فيه فيتو كورليوني ففقد وظيفته وصار عاطلًا. حاول أن يكسب المال بالعمل مع اثنين من أصدقائه، لكن فينوتشي لم يتركهم وشأنهم. فقرر فيتو أنه لن يعطي فينوتشي المزيد من المال، وعندما حذره صديقاه من أن فينوتشي رجل لا يقبل كلمة لا، قال لهم العبارة التي ستصبح أيقونته المرعبة الشهيرة بعد ذلك: «سوف أتفاهم معه». وقد كان! فقد «تفاهم» معه وأرداه قتيلًا في النهاية. لم تثبت عليه التهمة، فلقد نفذ كلّ خطوة ببراعة، لكنّ الجميع كانوا يعرفون أن فيتو كورليوني هو من خلص العالم من شرور فينوتشي، فصار بطلًا مهيبًا، وصار الناس يقصدونه طلبًا للخدمات، ويؤدون له خدمات أخرى في المقابل. ومع كل خدمة، ومع كل انتصار جديد، كانت إمبراطورية دون كورليوني تتسع وتترسخ. ولا تنس أنه كان يشير على كل أتباعه لمن يجب أن يصوتوا في مختلف الانتخابات، مما أكسبه قوةً سياسية لا يستهان بها. كما أن إنفاقه السخيّ على تعليم النابغين في الأسر التابعة له حتى يتخرجوا في الجامعة جعل له جيشًا وفيًّا من المحامين والشرطيين والقضاة وغيرهم.

لقد أفاق دون كورليوني أخيرًا من غيبوبته، لكنه لا يزال متوعكًا. أما مايكل فلقد هرّب إلى صقلية على الفور بعد أن قتل الرجلين حفاظًا على حياته، فهو لم يعد مدنيًا في حروب المافيا. راح مايكل يفكر في حياته التي انقلبت رأسًا على عقب وهو على متن السفينة التي نقلته إلى صقلية، وشعر بالذنب لأنه لم يودع حتى حبيبته الأمريكية، إنه لا يعرف بعد أنه سينساها تماما، وأنه سوف يقع في حب فتاة صقلية لطيفة ويتزوجها، وأن أعداءه سوف يقتلونها أمامه، وأنه سينجو ليتجرع مرارته وحده. كما أنه لا يعرف أنه سيتلقى خبرًا بشعًا عما قريب، خبرًا كان كفيلًا بزلزلة دون كورليوني ذاته.

لكن ترى كيف حال صديقنا الحانوتي أمريغو بوناسيرا الآن؟ كان يعمل عندما جاءه اتصال مفاجئ من مستشار دون كورليوني يطالبه برد الجميل. ارتجف أمريغو بوناسيرا فزعًا، فالوقت يمحو العرفان بالجميل أسرع مما يمحو الجمال، كما يخبرنا الكاتب. ترى ماذا يريد؟ لا بد أنه سيطلب منه دفن بعض القتلى في مقبرته وأن يزور أوراقهم. ياللمصيبة! ياللمصيبة! لكن من يجرؤ على رفض أداء خدمة لدون كورليوني؟

وصل الدون أخيرًا، إنه يبدو أنحف وأضعف وأكبر سنًا مما كان في زفاف ابنته، كما أن حركاته متصلبة إلى حدّ ما، لكنه لا يزال يشع قوةً ورهبة. كان الرجال قد وضعوا الجثة التي جلبها دون كورليوني على المنضدة المخصصة لذلك بالفعل. قال دون كورليوني: «أريدك أن تستخدم كلّ براعتك، كل قدراتك. لا أريد لأمّه أن تراه على هذه الحال». رغم خبرة أمريغو بوناسيرا الطويلة، لم يستطع أن يكتم شهقته المصدومة عندما رأى وجه جثة سوني كورليوني الذي هشمه الرصاص. واجتاحت الدون موجة من الضعف فأمسك بكتف بوناسيرا وقال: «انظر.. انظر كيف قتلوا ابني!».

مع مقتل سوني كورليوني وإفاقة الدون من غيبوبته بدا أن حرب المافيا قد شارفت على الانتهاء أخيرًا. كان الدون يريد أن يضمن سلامة مايكل قبل أي شيء، فجمع رؤساء عائلات المافيا الخمس في اجتماع تاريخي، ألقى فيه خطبته الشهيرة التي أعادته إلى عرش مافيا نيويورك، ووضعت الكاتب على عرش الأدباء الذين يعرفون حقًا ما يفعلونه بأقلامهم. كانت خطبةً بارعةً، اعترف فيها بأخطاء ابنه القتيل، وشرح ما حدث مع سولوتزو من وجهة نظره، وكيف تطور الأمر إلى حرب دموية خسر فيها الجميع، كانت خطبةً متواضعةً كالعادة، لكن لم يفت أحدًا أن يلاحظ أنه أكد كيف استعاد صحته، وكيف أنه لن يتخذ أي إجراءات لمعرفة من قتل سوني طالما استمر السلام، وأنه لن يستطيع أن يجري أي مناقشات تتعلق بالعمل قبل أن يطمئن أولًا أن ابنه الأصغر مايكل كورليوني يستطيع العودة إلى الولايات المتحدة بسلام دون أن يعترضه أحد. لم تكن هذه تصريحات بسيطة، فامتناع دون كورليوني عن العمل كان يعني خسائر كبيرةً للجميع. ولم ينس الدون أن يضيف إضافةً أخيرة: 

❞«لكن دعوني أعترف لكم أنني رجل يؤمن بالخرافات، ولذلك، فإذا وقع حادث ما لابني الأصغر، إذا أطلق عليه رجل شرطة النار عن طريق الخطأ، إذا شنق نفسه في زنزانته، إذا ظهر شاهد جديد يثبت إدانته، فسوف أظن أنها نتيجة ضغينة يحملها لي بعض الناس هنا، إذا صعقه البرق فسوف ألوم بعض الناس هنا. إذا سقطت طائرته من السماء أو غرقت سفينته في أعماق المحيط أو أصيب بحمى قاتلة، إذا اصطدم قطار بسيارته فلسوف ألقي باللوم على سوء نية بعض الناس هنا. وأنا لا أستطيع أن أغفر الحظ السيئ من هذا النوع. أما فيما عدا ذلك، فأنا أقسم لكم أنني لن أخرق السلام مطلقًا» ❝

استغرقت إعادة مايكل إلى الولايات المتحدة عامًا كاملًا، تعلم فيه الكثير، مثل أن كلمة مافيا تعني الملجأ أو الملاذ، وأن المافيا بدأت كجماعة سرية تدافع عن الناس ضد الحكام الظالمين، إلى أن توحشت وصارت هي الظلم بعينه. وأدرك أن إمبراطورية والده أيضًا إن تركت فسوف تتطور كخلايا سرطانية حتى تدمر المجتمع كلّه كما حدث في صقلية. وهي القناعة التي ازدادت بعدما عاد إلى الولايات المتحدة أخيرًا وبدأ يستعد ليخلف والده في إمبراطورية كورليوني. بل أدرك أنّ المشاكل التي يلجأ الناس فيها إلى والده كي يساعدهم في حلّها ما كانت لتحدث من الأساس لولا نشاطات المافيا السرطانية المتنوعة. ولذلك بدأ بنية تصفية الإمبراطورية لتصبح قانونيةً تمامًا، وتتوقف عن الأنشطة الإجرامية بكل أنواعها، وأن تتاجر في زيت الزيتون بمعناه البريء! على الأقل هذا هو ما أخبر به حبيبته الأمريكية القديمة بعدما اتفقا على الزواج.

تقاعد دون فيتو كورليوني، وكان يقضي جلّ أيامه في زراعة الخضر في بستانه واللعب مع أحفاده، حتى توقف قلبه ذات يوم وهو يلعب مع حفيده في البستان كعادته، وكانت آخر كلماته بين ذراعي مايكل قبل أن يفارق الحياة هي: «الحياة جميلة للغاية».

صارع مايكل بعد وفاة والده كي يثبت للجميع -داخل منظمة والده وخارجها- أنه هو الدون الجديد، مريقًا الكثير من الدماء أثناء ذلك. وكان في كل خطوة يقطع جسرًا جديدًا يربطه بالشخص الصالح الذي كان يتمنى أن يكونه، ويخسر شخصًا جديدًا ممن يحب. وفي كل يوم يمر كان يبتعد أكثر عن هدف تصفية أنشطة المنظمة التي راح ينغمس فيها أكثر وأكثر، وظل يبتعد حتى عن القيم التي عاش والده يدافع عنها. وينتهي الكتاب الأول من السلسلة بقتل مايكل لزوج شقيقته بعد أن قبل أن يكون الأب الرّوحي لطفلها، ثم كذبه على زوجته بإنكاره التام للتورط في قتله، في إشارة قوية لما سيؤول إليه مصير مايكل في الروايات التالية من السلسلة.

غلاف النسخة العربية من الرواية، ترجمة أماني الحداد

«الأب الروحي» ليست مجرد رواية عن المافيا، بل هي ملحمة معقدة تدور في عالم متشابك يسحر حتى القارئ الذي يكره عوالم المافيا والعنف مثلي. والشخصيات في القصة شخصيات رمادية شديدة التركيب والواقعية، والقصة لا تروى من وجهة نظر واحدة، بل من وجهات نظر متعددة مركبة، وقد برع الكاتب في صياغة عباراته وتشبيهاته وحواراته بمهارة فنية مذهلة لا تخرج إلا عن أديب حقيقي -وهم قلة-، وهو ما يجعل القارئ يندمج تمامًا في أحداث القصة، ولا يملك إلا أن يتعاطف مع عائلة كورليوني رغم أنها عائلة من المجرمين.

والسر في هذا هو أن الجريمة نفسها ليست محط تركيز القصة، فالقصة تركز على الصراعات والمعضلات التي تقع فيها كلّ شخصية، والتبريرات والاختيارات التي تلجأ إليها للخروج من ذلك الصراع، والتبعات التي تتحملها نتيجة لكل ذلك. وبراعة الكاتب في تصوير تلك التجربة الإنسانية وأبطالها هو ما يأسر القارئ، حتى لو كان الأبطال مجموعةً من المجرمين. أضف إلى ذلك الخليط شخصيةً غير عادية مثل دون فيتو كورليوني، الذي وصف الكاتب لفتاته وكلماته ونبرات صوته بشكل يجعلك تكاد تراه وتسمعه وتستشعر تأثيره الساحق.

وربما يعيب القصة كثرة القصص الجانبية المفصلة للشخصيات الفرعية، دون أن يكون لها أيّ علاقة بخطّ القصة الأساسي. وربما كان أكثر ما أثر فيّ شخصيًا في القصة هو سقوط مايكل كورليوني، خاصة تلك اللحظات التي كان يكتشف فيها أن الصورة التي ظل يبنيها عن نفسه طوال حياته قد لا تكون ذاته الحقيقية، وأنه ربما يكون أشبه شخص بوالده رغم أنه كان يدعي العكس طيلة عمره، وأن الصفات التي كان ينفر منها من قبل ربما تكون داخله، ولكنه لم يكتشفها بعد. هذا ما وجدت نفسي أسترجعه باستمرار بعد قراءة القصة. فأنا لم أعمل في المافيا من قبل، لكنني جربت الشعور بالارتباك عندما أدركت أن الأنماط المتكررة في اختياراتي وتصرفاتي لا تتماشى مع الصورة التي رسمتها لنفسي، وجربت شعور الدهشة لإجادتي لأشياء كنت أظنني أخشاها، وعرفت أيضًا شعور أن يكتشف المرء بعد قراءة بعض أوراقه القديمة أن بعض صفاته ومواقفه قد تغيرت -دون أن يشعر- من النقيض إلى النقيض. كما أنني صرت أشعر بجو من الخطورة كلما طلبت من زوجي أن يشتري زجاجة من زيت الزيتون!

3 تعليقات على “الأب الروحي – The Godfather”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *