توفيق الحكيم، 1937
تحذير: هذا المقال يحتوي على معلومات مفصلة عن القصة ونهايتها
استيقظ أيها القارئ! بسرعة! نعم، نعم، أنا أعرف أنّك كنت تتمنى لو تترك وشأنك لليلةٍ واحدةٍ فقط تنام فيها ملء جفنيك نومًا متصلًا لذيذًا، فهذا هو بالضبط ما تمناه النائب الشاب الذي تهاوى من الإرهاق على فراشه فغرق في نومٍ عميقٍ قبل أن تكتمل الأمنية في ذهنه حتى. لكنّك تعرف جيدًا أن الجريمة لن تنتظرنا حتى نستيقظ، فقد أصيب أحدهم بطلقٍ ناريٍّ. ها هو النائب ينهض من فراشه بمعجزةٍ ليحاول استقصاء الأمر.
وهو يعرف أنّه لا جدوى من الأمر كلّه، فحتى لو وجدنا شاهدًا يعتمد عليه، وعمدةً لا يحلف بالطلاق أنّ المجرم ليس من أهل ناحيته، فأين نجد قتيلًا يرغب أهله في التعاون بدلًا من التكتم التامّ وعرقلة خطواتنا كي يأخذوا هم بثأرهم فيما بعد؟ لكنّه ذهب ليحقق في الواقعة على أي حال، لنلحق به في مسرح الجريمة.
لقد وصلنا! إن المجنيّ عليه في حالةٍ سيئة، لكنّه لم يمت بعد. نبدأ التحقيق؟ هل جننت؟ يجب أن يفرغ النائب من تدوين تفاصيل هيئته وملابسه وخامتها ولونها بالتفصيل أولًا، ألا تذكر تلك الحادثة التي انهمك فيها في تدوين تفاصيل ملابس الجريح حتى مات قبل أن يسأله عن الجاني؟ فضبط الجاني أمر لا يسأل عنه أحد كما يخبرنا النائب، المهم هو تحرير المحضر على الوجه المطلوب، أن يفتتح بالـ «ديباجة» المعروفة: نحن فلان وكيل النيابة ومعنا فلان تلقينا الإشارة التلفونية رقم كذا الساعة كذا وكل هذا الكلام الـ«ملوخية». ربما لا تكون طريقةً فعالة، لكنّها أصول التحقيق التي ورثها النواب كابرًا عن كابر، أم تريد للناس أن يأكلوا وجوهنا؟
لكن يبدو أنّهم سيأكلون وجوهنا على أيّ حال. فلا يوجد شاهد واحد يعتدّ به، والمجني عليه، قمر الدولة علوان، ليس في وعيه. وبالتالي، لم يستطع النائب أن يملأ إلا عشر صفحاتٍ فقط، ومحضر إطلاق النار يجب أن يكون عشرين صفحةً على الأقل…المسألة مسألة أصول! لكن ترى من أطلق النار على قمر الدولة علوان؟ ولماذا؟ فتش عن المرأة! لكن قمر الدولة علوان أرمل. ومن يربي ابنه إذن؟ ريم أخت زوجته الشابة هي من تتولى تربيته. قد يكون هذا مفتاح قضيتنا.. احضروها فورًا!
من قتل قمر الدولة علوان؟ ربما تدلنا ريم على خيطٍ ما. ربما. لكنّ النائب يجب أن يصفي فكره أولًا إذا أراد أن يرى ذلك الخيط، وكيف يفعل وقد فتن من فوره بمرأى ريم؟ كانت ريم فاتنةً في السادسة عشرة من عمرها لم ير مثلها في حياته. لكن لحظة.. ربما يكون هذا هو المفتاح! جمال كهذا لا بدّ أن يسبب بعض المشكلات هنا وهناك. ليس من الغريب إذن أن يتنافس شباب القرية على خطبتها، لكنّ الغريب هو أنّ قمر الدولة علوان -الذي يعتبر وليّها- رفضهم جميعًا، حتى ذلك الشابّ الأخير الذي لم ترفضه هي، رفضه على الفور دون مبررٍ واضح رغم قبولها.
من قتل قمر الدولة علوان؟ هل انتهيت من إعداد تقاريرك؟ هلم بنا إذن لننطلق إلى المحكمة، فأمامنا الكثير من القضايا، يبدو أن أكثر من نصفها قضايا مخالفات بسبب الذبح خارج السلخانة، فنحن لسنا في سكوتلاند يارد! لكنّ قضية هذا الرجل تبدو مختلفةً بعض الشيء:
❞القاضي: أنت يا رجل متهم بأنك غسلت ملابسك في الترعة.
المتهم: يا سعادة القاضي، ربنا يعلي مراتبك، تحكم علي بغرامة لأنني غسلت ملابسي؟
القاضي: لأنك غسلتها في الترعة.
المتهم: وأغسلها فين؟ ❝
لا عجب أنّ القاضي تردد لفترة، فهو يعرف أنّ بيوت القرية لا تحتوي على أنابيب الماء الجاري والأحواض وما شابه، فظروف الحياة في تلك القرى الصغيرة لا تكاد تناسب الآدميين، لكنّ ساكنيها مطالبون باتباع قانونٍ أجنبيٍّ على أحدث طرازٍ رغم ذلك.
❞ القاضي: النيابة
النائب: النيابة ليس من شأنها أن تبحث أين يغسل هذا الرجل ملابسه، ولكن ما يعنيها هو تطبيق القانون.
القاضي: غرامة عشرين، غيره! ❝
وهكذا غرّم الرجل الذي تجرأ على غسل ملابسه في المكان الوحيد المتاح لذلك رغم أن القاضي والنيابة «عارفين اللي فيها»، لكنه القانون! ولست وحدك من يفكر في عبثية هذا كلّه. فلقد راح نائبنا الشاب يفكر بينه وبين نفسه:
❞ مضت الأحكام في جميع المخالفات على هذا النحو، ولم أر واحدًا من المخالفين قد بدا عليه أنه يؤمن بحقيقة ما ارتكب، إنما هو غرم وقع عليهم من السماء كما تقع المصائب، وإتاوة يؤدونها لأن القانون يقول: إنهم يجب عليهم أن يؤدوها! ولطالما سألت نفسي عن معنى هذه المحاكمة، أنستطيع أن نسمي هذا القضاء رادعًا والمذنب لا يدرك مطلقًا أنه مذنب؟❝
لم تكن قضايا الجنح في الجلسة أكثر إثارة، لو استثنينا قضية المرأة التي «عضت» إصبع الشيخ حسن عمارة! على أي حال، أجلت قضية قمر الدولة علوان إلى جلسةٍ أخرى. وانخرط النائب الشاب في مشاكل القرية التي لا تنتهي، إلى أن جاءه النبأ المنتظر: لقد أفاق قمر الدولة.
من حاول قتل قمر الدولة علوان؟ سنعرف فور أن نصل إلى المستشفى. ها هو، اقترب منه نائبنا الشاب ليحاول أن يعرف الحقيقة. لكن قمر الدولة -بعد جهدٍ جهيد- لم يجب السؤال إلا بكلمة واحدة: ريم! هل يقصد أن ريم هي من حاولت قتله؟! حاول النائب أن يستفسر منه عن قصده، لكن حالته ساءت، وبدا من الواضح أن ساعاته في هذه الدنيا أصبحت معدودة. ليته ما تكلم! فلقد أصبح الأمر الآن أكثر غموضًا وتعقيدًا من السابق.
لكن ضغط العمل لن يسمح لنائبنا الشابّ بالتوقف للتفكير في الأمر، فالقضايا لا تنتهي، ويجب أن ينظر في العشرات منها اليوم، ومنها البلاغ الذي ورد عن سرقة «كوز ذرة»، بلا مؤاخذة، أيها القارئ. وقد أوكلها إلى مساعده كي يتدرب على «سر الصنعة».
وهكذا تتابعت القضايا، وراح النائب الشابّ يتساءل ما إذا كان مساعده يرقّ لحال الفلاحين المسحوقين كما هي العادة في بداية العمل في الريف أم أن هذه الشفقة في طريقها إلى الموت كالعادة؟ لكن خبرًا جديدًا قطع حبل أفكاره. ريم، الفلاحة الحسناء الشابة، اختفت! لكن لماذا تفر ريم؟ انزعج النائب الشابّ الذي فتنه جمال ريم ووجد نفسه مهتمًا بقضيتها بشكلٍ شخصيٍّ رغمًا عنه. ما الذي قد يدفعها إلى ذلك في هذا التوقيت الحرج؟ هل بلغها أن قمر الدولة قد تلفظ باسمها عندما سئل عن الضارب؟ هل خدعتهم بجمالها وبراءتها؟
لا وقت لهذا الآن. لقد حان وقت جلسةٍ جديدة في المحكمة. والقاضي هذه المرة هو القاضي الـ«المستعجل»، وهو لا يعيش في القرية ويرحل دائمًا في قطار الساعة الحادية عشرة صباحًا، ولذلك فهو يدخل القاعة، ويقرأ الأسماء والأحكام في سرعةٍ مدهشةٍ «كالسهم لا يوقفه شيء»، دون أن يترك فرصةٍ لأحدٍ ليتكلم.
وهنا أيضًا تتجلى لنا عبثية العملية القانونية كلّها. فمهما حاولت أن تشرح لذلك الفلاح المسكين الذي حكم عليه بغرامةٍ كبيرةٍ بتهمة سرقة القمح الذي زرعه بنفسه وأطعمه لأطفاله لأن القمح كان محجوزًا إلى أن يسدد أموالًا فرضتها الحكومة عليه لما فقه ما تقول. ما يفهمه هو أن الضرب جريمة، والقتل جريمة، والسرقة جريمة، لكن كيف يكون أخذ ما هو ملك له سرقة؟ لكن لا وقت لهذا، فقد اقترب موعد القطار، وكل ما يشغل القاضي الآن هو أن يلحق بالقطار.
لقد تأجل النظر في القضية مجددًا، سنعود إذن للسؤال الأثير: من قتل قمر الدولة علوان؟ لكن ما هذا؟ خطاب من مجهولٍ وقع باسم «فاعل خير»، ها هو النائب الشاب يفضه ويقرأ محتواه:
❞نعرفكم بأن الحرمة زوجة قمر الدولة علوان المضروب الموجود بالاسبتالية الميري كانت ماتت من سنتين مخنوقة، وتستر عليها حلاق الصحة من أجل الرشوة، وأجرى دفنها بدون علم الحكومة واسألوا زوجها علوان وأختها البنت ريم عن الذي خنقها. وأسباب الجريمة معلومة ولا تخفى على فطنتكم إذا كلفتم خاطركم بالتحقيق بنفسكم، وإنكم تكشفون أسرارا خطيرة، وتضربون على أيدي الأشرار ❝
يبدو أن القضية سوف تزداد تعقيدًا. لو صح كلام فاعل الخير هذا لانضمّ فأر جديد إلى الفئران التي تلعب في «عبنا» الآن. هل ماتت زوجة قمر الدولة مقتولةً حقًا؟ هل قتلها هو ليتزوج ريم؟ هل حاولت ريم قتله انتقامًا لمقتل شقيقتها؟ هل الأمر مرتبط بثأرٍ آخر؟ هل تختلف الحقيقة عن كلّ هذا؟ انطلق نائبنا الشابّ من فوره ليتحقق من صحة ما جاء في الرسالة. لكنّ التوقيت كان حرجًا، فلقد تغيرت الوزارة، وهو ما يعني انقلابًا للقوى داخل القرية، ولا بد أن العمدية سوف تنتقل إلى العائلة التي تناصر الوزارة الجديدة، ولا بد أن الكثير من الاستعدادات ستبدأ من أجل الانتخابات الجديدة أيضًا.
لكنه تحقق من صدق ما جاء في رسالة فاعل الخير. لقد ماتت الزوجة مخنوقةً بالفعل، ومرت الجريمة دون أن يكتشفها أحد. وعندما سئل المسؤول عن هذا الإهمال الجسيم كان رده: «لو كنا نقعد نكشف يا سعادة البك على كل متوفي كان زماننا اتوفينا من بدري!». نجح النائب الشاب في كبح غيظه وانطلق ليبلّغ عن الواقعة، لكن المأمور قال له متأففًا:
❞- المركز مش فاضي اليومين دول للخنق والحرق!
= عجايب! أنتم لكم شغل غير المحافظة على الأمن؟
– نترك الانتخابات ونلتفت للقتل والخنق؟ ❝
كان هذا ضمن جلسةٍ طويلةٍ تحمل فيها سخرية أحد «علماء القرية» من رجلٍ ألقى محاضرةً عن عالمٍ مزعومٍ يدعى «شنتون» -وكان يعني آينشتاين-، والعمدة، الذي راح يتوسل إلى المأمور أن يسحب تهديده وألا يدخله الـ«برلمان»، ظنًا منه أن البرلمان هذا معتقل لا أكثر، رغم أنه هو الموكل بالإشراف على العملية الانتخابية! والمأمور ليس أفضل كثيرًا، فقد قال للنائب بغيظ ذات مرة: «الله يمسيه بالخير وكيل النيابة سلفك، كان يسأل في قضية القتل شاهدين فقط لا غير ويقفل محضره ويميل علي ويقول: هو القتيل أبونا ولا أخونا؟». لكنّ النائب لم يفقد الأمل، وانطلق يبحث عن خاطب ريم الأخير الذي رفضه قمر الدولة، وهو ما قاده إلى سلسلة من الحوادث التي كادت تصيبه بالشلل من شدة الغيظ، وإن كانت مضحكةً لقارئ القصة.
كانت كل هذه الأحداث قد أنسته إجراء الجرد المفاجئ المطالب بأدائه شهريًا، لكنّها ليست مشكلةً كبيرة، لأن الصراف قد أرسل كالعادة يطلب بنفسه أن «يفاجئه» البك الوكيل بالجرد في تمام العاشرة كي ينهي الأوراق المطلوبة ويودع الأموال في الخزانة لينهي عمله، وإذا تعجبت من مفهوم الـ«مفاجأة» هنا، فهذا يعني أنك لم تفهم كيفية سير الأمور هنا بعد!
لقد بدأ موسم الانتخابات. ها هو المأمور يتفاخر بسياسته الرشيدة في تسيير العملية الانتخابية بسلاسة:
❞دي دايمًا طريقتي في الانتخابات: الحرية المطلقة، أترك الناس تنتخب على كيفها، لغاية ما تتم عملية الانتخابات، وبعدين أقوم بكل بساطة شايل صندوق الأصوات وأرميه في الترعة، وأروح وأضع مطرحه الصندوق اللي احنا موضبينه على مهلنا ❝
لكن لا وقت للغيظ الآن، يجب أن نواصل التحقيق في مقتل قمر الدولة. لكن لننه قضية التسمم العاجلة هذه أولًا، فيبدو أن امرأةً ما تتهم طليقها بمحاولة تسميمها كي يتهرب من النفقة. وتحقيقات التسمم تتطلب ملء استمارةٍ خاصةٍ، وهي مهمة شبه مستحيلة، إذ كيف تسأل فلاحةً أميةً في حالة إعياءٍ شديدٍ لم تمس ساعةً في حياتها عن وقت بدء ظهور الأعراض بالساعة والدقيقة؟ يبدو أنه سيكون يومًا عصيبًا.
كانت المرأة كما توقع النائب، في حالٍ مزرية، تتقيأ باستمرار، وتحيط بها نسوة الحي في محاولةٍ لمساعدتها والتخفيف عنها. اقترب النائب الشاب وسألها: «اسمك وعمرك وجنسيتك». لم تجبه المسكينة طبعًا، ولم يبد أنها سمعته أصلا. فتطوعت إحداهن قائلة:
❞- مش ادلعدي حضرتك طالب تعرف اسمها؟ اسمها نبوية.
= نبوية إيه؟
-لا، منعرفش غير نبوية. أهي في الحارة كنا نقلها تعالي يا نبوية روحي يا نبوية ❝
أفهمهن النائب أنّ هذا لا يكفي، فاجتمعن حولها وحاولن أن ينشطنها قليلًا حتى تجيب السؤال، وما إن حركت شفتيها حتى استبشرن ورحن يصحن بها:
❞ – أيوة، أيوة ردي علينا يا حبيبتي!
فأسرعت أصيح قرب أذنها وقد تصبب العرق مني:
– اسمك؟ اسمك إيه بقى؟
فأنت وزامت وقالت في صوت خافت متهدج:
– اسمي… نبوية
فكدت أشق ثيابي.
= مفهوم! نبوية! كويس خالص! لكن نبوية إيه؟ اسم أبوك إيه؟ أنا في عرض أبوك! نبوية إيه؟❝
استطاع النائب أن يستخرج اسمها كاملًا بعد محاولاتٍ مؤلمةٍ محطمةٍ للأعصاب. لكنه لم يشعر بالانتصار.
❞ بقي في الاستمارة عشرة أسئلة، فكيف بالباقي؟ خصوصا السؤال الأخير: بيان الفترة بين تعاطي المادة المشتبهة وأول ظهورٍ للأعراض. مع وجوب ذكر تواريخ واضحةٍ وساعاتٍ معينة. أي أن هذه المرأة التي لم تخرج اسمها من بين فكيها إلا بعد أن كادت تخرج أرواحنا ستقول لنا عن الساعة والدقيقة بالضبط التي لاحظت فيها ظهور الأعراض؟ شيء جميل! أنا مجنون أسأل هذه الأسئلة؟ أليس في عيني نظر؟ ماذا تظن بعقلي هؤلاء النسوة إذا خالجني طمع في أن أتلقى من هذه الطريحة جوابًا بالساعة والدقيقة، وكلّ هذا الكلام المطبوع على استمارة صنعت فوق مكاتب العاصمة في صفاء وهدوء بال، بعيدًا عن مناظر القيء والإسهال! ❝
اكتفى النائب الشاب بأخذ العينات ورحل وهو لا يكاد يطيق روحه ذاتها، لكنّ خبرًا ثقيلًا كان في انتظاره. لقد ماتت ريم. ماتت غرقًا. قتلت على الأرجح هي الأخرى، أو ربما انتحرت؟ لا يدري، وحتى لو أراد أن يعرف لما سمح له أحد. تأثر النائب الشاب كثيرًا لموت ريم، ولم يستطع أن يأمر بتشريح جثتها، فما الفائدة على أي حال؟ ما الجدوى؟ لا عجب أن الكآبة سيطرت عليه وهو ينظر إلى ملفات القضايا المكدسة التي يجب الانتهاء منها قبل انقضاء العام القضائي الذي لم يتبق فيه سوى أيامٍ معدودات. فانقض على الملفات يوسعها «حفظًا»، والقضايا التي تحفظ لا تفتح مجددا كما تعرف، تنسى وكأنها لم تكن. وبينما هو غارق في أكوام الأوراق، رأى ملف قضية قمر الدولة علوان…
❞ الفاعل في هذه القضية لم يعرف، لم يعرف، طبعًا لم يعرف ولن يعرف. وكيف يراد منا أن نعرف متهما في قضية غامضة كهذه القضية وكل من المأمور والبوليس «ملبوخ» من رأسه إلى قدمه في تزييف الانتخاب، وأنا «ملبوخ» في قراءة شكاوي وجنح ومخالفات وحضور جلسات!… إن هذا المجنيّ عليه قد مات وانتهى مثل غيره من مئات المجني عليهم، ذهب دمهم جميعًا أرخص من المداد الذي حبّرت به محاضر قضاياهم… وبحفظ القضية، تقبر إلى الأبد. ولن يعيبنا شيء إذا حفظنا القضية، لكن العيب كل العيب أن تظل هذه القضية باقية قيد التصرف ❝
وبعد استرسال النائب الشاب في خواطره المريرة، أتى مشهد النهاية.
❞ ثم كتبت في ذيل المحضر الإشارة المعهودة:
تحفظ القضية لعدم معرفة الفاعل، إلخ إلخ. وسحبت الجنايات الأخرى وفعلت بها مثل ذلك وناولتها لرئيس القلم الجنائي وأنا أقول له في نبرة خرجت ساخرة مريرة على الرغم مني: مبسوط؟ أدحنا خلاص سددنا كشف الجنايات! ❝
وتأتي النهاية الواقعية السوداء مثاليةً للقصة، وتترك غصةً في حلق القارئ، كأنها تطالبه بدفع ثمن ضحكه على الكوميديا السوداء التي استمرت طوال صفحاتها.
«يوميات نائب في الأرياف» رواية ساخرة واقعية سوداوية كتبها توفيق الحكيم استنادًا إلى تجربته الشخصية في العمل كوكيل للنيابة في الريف، وهي أقرب أعماله إلى قلبي. وهذا لأنه بأسلوبٍ بسيطٍ مباشرٍ وفي صفحاتٍ قليلة، استطاع أن ينسج عالمًا محكمًا، وأن يدمج القارئ فيه، وأن يوصل رسالته بشكلٍ قوي مؤثر.
والبطل هنا ليس وكيل النيابة الشاب، بل الدمار الذي تسببه شبكة الفساد والجهل المتشابكة. فنحن لا نعرف شيئًا عن النائب تقريبًا، وهو لا يذكر باسمه بل بصفته، ولا يخبرنا أيّ شيء عن خلفيته أو أسرته أو حتى ميوله السياسية، كل ما نعرفه هو أنه أتى إلى الريف مكرها، وراعه ما رأى من ظلمٍ وبؤس، وتراكم حنقه على النظام والمسؤولين وحتى الفلاحين أنفسهم حتى فقد جزءًا كبيرًا من تعاطفه معهم، واقتنع بعبثية الأمر كله. إلى أن وجد قضية قمر الدولة التي بذل فيها كلّ ما يستطيع حتى وصل إلى «حائطٍ سد». فأعلن هزيمته وحفظ القضية. لكننا ندرك مما يقال بين السطور أنّه يشعر بالإهانة، لأنه-في واقع الأمر- «ملهوش لازمة»، لأنه كرس حياته لقانون لا فائدة منه، لنصرة أناسٍ لا يستطيع أن يفعل لهم شيئًا، ويشعر بالغيظ منهم في الوقت نفسه، لأنه فشل في حماية ريم، أو فهم حكايتها. لأنه حفظ القضية في النهاية.
ماذا يفعل إذن من يجد نفسه في موقف كهذا؟ في نظام كهذا؟ من يخشى أن يفقد ما تبقى من إنسانيته واحترامه لذاته؟ هل سيستمر في العمل رغم كل هذا؟ هل هو مضطر للاستمرار في العمل لأسباب مادية مثلا؟ لا نعرف، لأن توفيق الحكيم لا يسمح لنا بالانخراط في حياة النائب وخياراته، ربما لأنها تعكس جزءًا من حياته هو كنائب في الريف، وربما لأنه يريد أن يخبرنا أن هذا ليس هو المهم. المهم هو أننا عرفنا أخيرًا إجابة سؤالنا الأثير «من قتل قمر الدولة علون»، وإن كانت إجابةً غير متوقعة. فالإجابة هي: لا نعرف. ولن نعرف. وأنّه طالما ظل الوضع بلا تغيير، فلا فائدة ترجى من المعرفة على أي حال.