ماري شيلي، 1818
تحذير: هذا المقال يحتوي على معلومات مفصلة عن القصة ونهايتها

لكن لماذا لا تريد أن تأتي معي في رحلة بحرية جديدة، أيها القارئ؟ نعم، أنا أعلم أن رحلاتنا البحرية السابقة لم تكن سهلة، لكنني أعدك أن المتمردين لن يخطفونا ليلقوا بنا على شاطئ مهجور مثلما حدث في قصة طرزان، وأننا لن نشهد كارثةً محققةً مثلما حدث في رحلتنا لاستكشاف ما واجهته تايتانيك. بل إننا سنذهب إلى سويسرا القرن التاسع عشر، حيث الجبال الشاهقة، والطبيعة الخلابة، إنه عرض لا تستطيع رفضه! كنت أعلم أنك ستأتي في النهاية، لكننا أضعنا الكثير من الوقت في الكلام. لا بدّ أنّ البحارة على سفينة المستكشف والتون قد أنقذوا فيكتور فرانكنشتاين بالفعل. لكننا لن ننتظر حتى يتعافى ويبدأ في قصّ حكايته، بل سنعود بالزمن إلى الوراء لنشهد القصة بأنفسنا.
ها نحن ذا وسط الطبيعة السويسرية الساحرة، وهذا الشابّ النابغة هو فيكتور فرانكنشتاين، وكان قد أعجب ببعض كتب الخيميائيين القديمة التي لا تحوي إلا أطنانًا من الكلام الفارغ عن تحويل المعادن وما شابه ذلك، لكنّ إعجابه هذا تحول إلى افتتان عندما حاول والده أن يصرفه عنها. وحتى عندما ترك بلدته والتحق بالجامعة ليتخصص في دراسة العلوم لم يتخلّ عن كتبه تلك. ورغم التفوق المبهر الذي حققه في الجامعة، لم يشعر فرانكنشتاين أنه حقق ما يريد، فهو لم يكن يريد تفوقًّا عاديًّا، بل كان يتمنى أن يكسر حاجز المعرفة البشرية، أن يكتشف ما لم يسبقه إليه أحد من قبل، أن يكون عظيمًا. ومع تفوقه الكبير في المعارف القديمة والحديثة، وشغفه الكبير بالكيمياء وعلم التشريح، استحوذت عليه فكرة التوصل إلى سرّ الحياة. الآن نفهم لماذا يقضي الليالي في المقابر والمشارح يتفحص الجثث المتحللة، فلقد قدر أنه إن أراد التوصل إلى سرّ الحياة، فلا بدّ أولًا من إدراك تفاصيل ما يحلّ بالجسد بعد الموت. أعماه طموحه عن بشاعة الظروف والأماكن والمناظر والروائح التي أغرق نفسه فيها تمامًا حتى لم يعد يشعر بمرور الوقت، ولا بالإرهاق، حتى أهمل عائلته تمامًا. إلى أن جاء اليوم الموعود الذي اكتشف فيه أخيرًا سرّ الحياة. وقد قال في وصف ذلك:
❞سرعان ما تحولت دهشتي بهذا الاكتشاف إلى سرور عظيم. فلقد وصلت إلى قمة طموحي بعد كل هذا العمل المضني! كان الاكتشاف عظيمًا ساحقًا، حتى أعماني عن كلّ الخطوات التي أدت إليه، فلم أر سوى النتيجة ❝
لكنّها كانت البداية فحسب! فلقد شعر فرانكنشتاين أنه يجب أن ينتقل من مرحلة الاكتشاف إلى مرحلة التطبيق! ولم يخطر بباله أن يفكر في جدوى ذلك، أو في تبعات مشروعه إن نجح. كلّ ما كان يهمّه هو أن ينفذ مشروعه ويختبر حدود معرفته فحسب. ها هو فيكتور فرانكنشتاين يجمع «قطع الغيار» اللازمة لمشروعه، وقد أعماه هوسه التام بإتمام مشروعه عن شناعة نبش القبور وتعذيب الحيوانات الحية، وارتياد المشارح والمذابح لجمع الأجزاء اللازمة لبناء كائن شبيه بالإنسان.
بعد شهور طويلة من العمل الشاق المتواصل، انتهى بناء الكائن العجيب أخيرًا. لقد حانت لحظة الحقيقة إذن. لنختبئ في أيّ ركن في معمل فرانكنشتاين لنشهد هذه اللحظة الأيقونية المرعبة. أتمنى أن ينتهي الأمر بسرعة، فالجوّ العامّ في هذا المعمل كفيل بتحطيم الأعصاب حتى دون المسخ المنتظر. فالساعة قد تجاوزت الواحدة بعد منتصف الليل، وقطرات المطر تواصل الاصطدام بالنافذة بشكل مثير للأعصاب. والإضاءة! هل لاحظت أن الشمعة الوحيدة التي يستخدمها فرانكنشتاين قد أوشكت على الانطفاء؟ هذا الضوء الشاحب المتراقص الذي يلقي بظلال متحركة في أرجاء الحجرة أسوأ ألف مرة من الظلام الدامس.
ها هو فرانكنشتاين يوصّل الكائن بسرّ الحياة الذي يشبه كثيرًا توصيل تيار كهربيّ، وها هو الكائن العجيب يفتح عينيه الصفراوين البشعتين. إنه يتنفس بصعوبة، وتسري في أوصاله حركات لا إرادية. لقد نجحت التجربة! ترى هل شعر فرانكنشتاين أخيرًا بالرضا؟ بالإنجاز؟ هل سرى الحماس في أوصاله؟ ما إن رأى فرانكنشتاين المسخ الذي صنعه بشفتيه السوداوين وجلده الأصفر الذي لا يكاد يغطي ما تحته من أنسجة يتحرك، حتى شعر بالرعب يدبّ في أوصاله، ولم يستطع أن يتحكم في النفور الذي سيطر على كيانه، فشلّت أفكاره تمامًا وفر هاربًا من المعمل دون لحظة تفكير.

لم يستطع فرانكنشتاين أن ينام تلك الليلة إلا بعد عناء طويل، وكان نومه معذبًا مليئًا بكوابيس لا تحتمل. لكنّ الصباح كان يحمل له مفاجأةً سارة. لقد أتى صديقه الحميم كليرڤال خصيصًا من بلدته كي يطمئن عليه، فلقد أهمل فرانكنشتاين أسرته وأصدقاءه تمامًا خلال فترة انشغاله بمشروعه المجنون. خفف وجود كليرڤال عنه معاناته قليلًا، لكنّنا نعلم أنه يجب أن يتخذ قرارًا ما بشأن ذلك المسخ. ها قد عدنا مجددًا إلى المعمل المرعب. لكن أين المسخ؟ لا أثر له! وكأنه تبخر. سرّ فرانكنشتاين سرورًا عظيمًا بفرار المسخ، وشعر أنّ كابوسًا ثقيلًا قد انزاح عن صدره. سوف يتجاهله إذن، ففرانكنشتاين إنسان، والإنسان يجيد تجاهل المشكلات والاعتماد على الأماني بشكل مبالغ فيه، خاصة إذا كانت مشكلات كبيرةً لا تحتمل أيّ تجاهل!
مرت فترة قصيرة من الهدوء والسلام قبل أن يقرر فرانكنشتاين أن يعود أخيرًا إلى بلدته، حيث ينتظره أهله وخطيبته بفارغ الصبر. لكنّه يجد مأساةً في انتظاره. لقد مات أصغر أشقائه، أو بالأحرى، قتل! وقد تأكد أن القاتل هو ذلك المسخ الكريه الذي أفنى زهرة شبابه في محاولة صنعه! وما زاد الطين بلةً هو أنّ خادمةً وفيةً ربتها الأسرة منذ صغرها اتهمت زورًا بقتل الصغير، ولما لم تستطع هي أن تثبت براءتها، ولم يستطع فرانكنشتاين أن يخبر الناس عن المجرم الحقيقيّ لأنهم لن يصدقوه على أي حال، أعدمت المسكينة ظلمًا.
تعال لننضمّ إلى فرانكنشتاين بين الجبال الساحرة نتأمل بحار الثلج الممتدة أمامنا لنفكر قليلًا. لكن ما هذا؟ هل ترى هذا الرجل الضخم الذي يقترب منا بسرعة عجيبة؟ كيف يمكن لإنسان أن يقطع هذا الطريق الوعر المليء بالثلج بهذه السرعة والسلاسة؟ إلا إذا لم يكن إنسانًا بالطبع… إنه المسخ! أسرع! لنختبئ خلف هذه الصخرة ونسترق السمع إلى حوار فرانكنشتاين والمسخ.

❞فرانكنشتاين: « أيها الشيطان! كيف تجرؤ على الاقتراب مني؟ ألا تخشى انتقامي؟»
المسخ: «لقد كنت أتوقع هذا الاستقبال، فالجميع يكره البائس! لكن كيف أكره هكذا وأنا أكثر من يستحق الشفقة والرأفة. ألا يكفيني ما رأيت؟ إنني أطالبك بأن تسمع قصتي أولًا قبل أن تسترسل في وصف مدى كراهيتك واحتقارك لي» ❝

وهكذا بدأ المسخ في سرد قصته الطويلة، كيف قضى ساعاته الأولى في الحياة في حالة من عدم الوعي، كيف أذهله اختلاف الليل والنهار، كيف احتمى في مخبأ في غابة، واكتشف أنه يستطيع أن يراقب سكان أحد أكواخ الغابة من مخبأه دون أن يلاحظوه، كيف أدرك أنهم يتواصلون من خلال أصوات لم يكن يفهمها، كيف أحبهم، وحاول أن يساعدهم بأن يجمع لهم الحطب ويتركه عند باب الكوخ، كيف رأى انعكاس وجهه ذات يوم ففزع لأنه أدرك للمرة الأولى أنّه مسخ. ثم طفق يروي كيف زارت امرأة أجنبية الكوخ ذات يوم، وكيف بدأ أهل الكوخ يعلمونها لغتهم وتاريخهم وثقافتهم فتابع الدروس من مخبئه وتعلم هو الآخر اللغة والقوانين التي تسير العالم. وبالمناسبة أيها القارئ، لتلك المرأة الأجنبية -وهي عربية بالمناسبة- قصة فرعية طويلة لا مجال لذكرها هنا، لكنّك إن خمنت أنّ مغزى القصة الفرعية هو التأكيد على أنّ العرب والأتراك والمسلمين في المجمل قوم خداع وخيانة لا يمكن الثقة بهم فقد أصبت! لكن.. «ما علينا».
المهم، راح المسخ يروي تفاصيل انتقاله من البراءة والجهل إلى الفهم والعلم، ومن حبّ الخير والمساعدة إلى شهوة انتقامية عميقة لا قرار لها، عندما أيقن أنه مهما فعل من خير فلن يجد إلا الكراهية والصدّ والتعنيف. ثم قصّ على فرانكنشتاين كيف قرأ مذكراته التي كتبها ففهم أصل وجوده، وتتبعه حتى وصل إلى بلدته حيث أقسم على الانتقام منه لأنه تخلى عنه وتسبب في كلّ ما واجهه من صعاب. يحتدم النقاش بينهما لفترة، ثم يلقي المسخ بقنبلته، كل هذه الأحاديث كانت تمهيدًا لما أراد أن يطلبه:
❞لدي أمنية لا يمكن لسواك أن يلبيها، وأنا لن أتركك حتى تعدني بأن تلبي طلبي. أنا وحيد، وبائس، البشر يرفضون التعامل معي، لكن إذا وجدت امرأة مشوهة وبشعة مثلي فلن ترفضني. لا بد أن تكون رفيقتي من نفس نوعي، ولا بدّ أن تكون عيوبها كعيوبي، ولا بدّ أن تكون أنت صانع تلك الرفيقة ❝
رفض فرانكنشتاين طلب المسخ في البداية، لكنّ الأخير راح يتوسل إليه ويصف عذابه الذي لا يد له فيه، ووعده بأن يأخذ رفيقته إلى مكان بعيد منعزل عن البشر فلا يراهما أحد إلى أن يموتا، حتى رقّ له ووافق في النهاية. لكنّه لم يحتمل أن يعيش ذلك الكابوس من جديد. ثم ماذا إن لم تتحمل أنثى المسخ بشاعته حتى لو كانت هي مثله؟ وماذا إن أنجبت المزيد من المسوخ؟ ومن يضمن له أن يفي المسخ بوعده فلا يقترب من البشر مجددًا؟ لا… هذا لن يكون… كان المسخ يراقب تقدم العمل من الخارج عبر نافذة المعمل حين قرر فرانكنشتاين أن يدمر أنثى المسخ غير المكتملة، ولمّا رأى المسخ ذلك، ارتسمت على وجهه ملامح الكراهية والغضب، وتوعد فرانكنشتاين بالانتقام قائلًا:
❞سوف تندم على ما فعلت! سوف ترى! سأكون معك ليلة زفافك!❝
قالها واختفى. أدرك فرانكنشتاين أن الوحش سوف ينتقم منه لا محالة، وأنّه سيحاول قتله يوم زواجه من حبيبته التي كانت أيضًا صديقة طفولته. فقرر أن يحدد موعدًا للزفاف وأن يحاول مواجهة المسخ الكريه، وأن ينتهي هذا الكابوس الثقيل حينها، سواء أقتل أم كان القاتل.
ولم يدرك أنه أخطأ فهم تهديد المسخ إلا عندما رأى جثة عروسه ليلة زفافهما. فهو لم يكن يريد قتل فرانكنشتاين، بل كان يريد تحطيمه أولًا. ونستطيع أن نقول إنّه نجح في ذلك. فقد قتل أيضًا كليرڤال صديق فرانكنشتاين الحميم، واتهم الأخير بقتله وسجن لفترة. كما مات والده تأثرًا بالمصائب المتتالية.
وهكذا، قرر فرانكنشتاين أن يقضي على المسخ مهما كان الثمن. فراح يتبعه شمالًا حيث أرض الصقيع والثلج، وكاد يلقى حتفه لولا أنقذته سفينة البحار المغامر والتون، الذي تأثر بقصة فرانكنشتاين تأثرًا شديدًا. ولما أخبره والتون أنّه مستكشف مغامر يتمنى أن يكتشف أرضًا جديدةً أقصى الشمال، وأن يصل إلى ما لم يصل إليه أحد قبله، قال له:
❞ابحث عن السعادة في الهدوء والسلام، وتجنب الطموح، حتى لو لم يكن سوى الطموح الطبيعي في أن تتميز في مجال العلوم والاكتشافات.
إن لم تستمع إلى وصاياي، فعلى الأقل اعتبر بما حدث لي. يجب أن تدرك مدى خطورة اكتساب المعرفة، وأن الرجل الذي يقنع أن بلدته التي ولد فيها هي العالم أجمع، أسعد بكثير من هذا الذي يسعى كي يصبح أعظم مما تسمح به طبيعته ❝
لكن فرانكنشتاين لا يصمد كثيرًا بعد ذلك، فيموت بعد أن يوصي والتون بأن يحاول قتل المسخ بدلًا منه. ولا يضطر والتون إلى البحث كثيرًا، فلقد تسلل المسخ بنفسه إلى السفينة ليرى جثة فرانكنشتاين، حيث وجده والتون منهارًا، يبكي موت فرانكنشتاين:
❞إنه ضحيتي أيضًا! وبقتله أتممت جرائمي. أوّاه! فرانكنشتاين! ما الفائدة من طلب عفوك الآن؟ أنا الذي دمرتك عن طريق تدمير كلّ من تحب. آه! لكنه جثة باردة، ولن يستطيع أن يجيبني ❝
لكن، إذا كان المسخ سيحزن هكذا على موت فرانكنشتاين، فلماذا تعمّد تعذيبه إذن؟
❞هل تظن أنني لم أشعر بعذاب الضمير؟ لقد سيطرت الأنانية عليّ بينما كان عذاب الضمير يسمم قلبي. هل تظن أن وقع أنين كليرڤال وأنا أقتله كان كالموسيقى في أذني؟ لقد صنع قلبي للحب والشفقة والتعاطف، وعندما أجبرته المعاناة على التحول إلى البغض والشر، لم يستطع التخلص من عذاب الضمير. كم أبغض نفسي! لكنني لم أحتمل تجاهل فرانكنشتاين لعذابي وسعيه ليتزوج ويكون حياةً سعيدةً لنفسه❝
بعدما ينهي المسخ كلامه، يقفز من السفينة بعد أن يعلن أنّه سيواصل طريقه منفردًا إلى أقصى الشمال حيث سيقتل نفسه بعدما فقدت حياته كلّ معنى. ويقرر والتون أن يتخلى عن سعيه لاكتشاف أرض جديدة شمالًا، لما ينطوي عليه ذلك من تعريض حياة رجاله للخطر مع كثرة الجبال الجليدية في المياه، ويقرر العودة إلى دياره. ولا تخبرنا القصة ما إذا كان المسخ قد انتحر بالفعل أم كان يخدع والتون كي يفر وينجو بحياته. وإن كنت أرى أنّ المسخ كان صادقًا، فلا يوجد ما يدفعه للكذب على أي حال، فهو أقوى من والتون، وكان يستطيع أن يقتله بسهولة أو أن يفرّ رغمًا عنه، فوالتون كان يعلم أنّ سفينته لن تستطيع مطاردة المسخ بين الجبال الجليدية. لكن القصة تترك تخيل النهاية لنا.
كانت ماري شيلي في الثامنة عشرة من عمرها عندما كتبت رواية «فرانكنشتاين، أو بروميثيوس الحديث» ضمن مسابقة ودية لتأليف قصة رعب أقامها بعض أصدقائها الأدباء أثناء عطلة صيفية. هل تذكر كيف صورت القصة سرّ الحياة كشيء مرتبط بالكهرباء؟ لا تنس أن القصة كتبت في أوائل القرن التاسع عشر، عندما كانت تجارب الكهرباء الوليدة تعد بالكثير، وكانت تجارب تحريك الجثث أو أجزاء من أجسام الحيوانات الميتة باستخدام الكهرباء تجري بالفعل. وبعد مناقشة جرت حول تلك التجارب الشنيعة، نامت ماري شيلي ورأت في نومها مشهدًا مرعبًا يصور طالبًا ما ينجح في بث الحياة بالكهرباء في مسخ أمامه. وعندما استيقظت، قررت أن يكون هذا الحلم بذرةً للقصة التي ستشارك بها في المسابقة الودية.
لكن إبداع ماري شيلي وعبقريتها في نسج القصة لا يكمن في حبكتها العجيبة، بل في معالجتها لهذه الحبكة. فقد شهد القرن التاسع عشر تقدمًا كبيرًا في العلوم بشكل عام، وساد جوّ من الثقة في قدرة الإنسان على فهم عالمه والتحكم فيه، ودعا أنصار التنوير إلى التركيز على أهمية العقل، واكتساب المعارف، وتقدم العلوم حتى في المجالات الإنسانية والأدبية البحتة، وعارضهم الرومانسيون الذين رأوا أنّ العلوم والمعارف لا ينبغي أن تطغى على المشاعر، والتجارب الإنسانية الفردية، والخيال. ولا يستغرق الأمر الكثير من التفكير لنعرف إلى أيّ المدرستين تنتمي ماري شيلي. والقصة تصنف ضمن الأدب الرومانسيّ القوطي، وهي تضمّ عناصر رومانسيًّةً واضحة، مثل الإسهاب في وصف الطبيعة وانعكاس مشاعر الشخصيات عليها، ومناقشة حياة بطل يحاول السباحة عكس التيار السائد في مجتمعه ليحقق هدفًا مثاليًّا، بالإضافة إلى العناصر القوطية الشهيرة مثل جو الخوف والقلق والانقباض العام.

والقصة تحمل تحذيرًا واضحًا لأنصار حركة التنوير من عواقب تجاوز حدودهم في تجاربهم ومساعيهم للتقدم العلمي. ونرى التحذير واضحًا في العنوان الجانبي للقصة «بروميثيوس الحديث». وبروميثيوس هو شخصية شهيرة من الأساطير الإغريقية، سرق النار من جبال الأوليمب وأعطاها للبشر فتقدموا أكثر مما ينبغي لهم، وكان عقابه مروعًا. وكذلك فرانكنشتاين في القصة، تجاوز حدوده في تجاربه حتى اكتشف سرّ الحياة، لكنه لم يجن أيّ ثمار سوى التعاسة والقلق، وفقد كلّ من يحبّ حتى صار وحيدًا إلى أن لقى مصرعه مهزومًا. والوحدة تيمة متكررة في الرواية، فوالتون البحار المستكشف يشكو من وحدته، وكذلك المسخ. وكأنّ كلّ من تقاطع طريقه مع الطموح الزائد عن حدّه عوقب بالوحدة والمعاناة.
وبعيدًا عن التحذيرات المباشرة، نجد أنّ القصة تحتمل عددًا كبيرًا من الإسقاطات المتنوعة، بدءًا من علاقة الآباء بالأبناء وحتى الثورة الفرنسية! وهي علامة أخرى على براعة الكاتبة. لكنّني لم أهتمّ شخصيًّا بالإسقاطات المحتملة للقصة، بل ما أثار اهتمامي حقًا هو النماذج الثلاثة التي قدمتها القصة في التعامل مع الموازنة بين رغبات المرء ومسؤولياته، وسوف أشرح لك ما أعنيه حالًا.
لعلك لاحظت الخطأ الشائع أنّ فرانكنشتاين هو اسم المسخ نفسه، رغم أنّه اسم العالم الذي صنع المسخ، بينما ظلّ المسخ بلا اسم طوال القصة. لكنني أرى أنه خطأ موفق، فأنا أرى أن الشرير الحقيقيّ هنا هو العالم فيكتور فرانكنشتاين، وليس المسخ. فهو يستسلم تمامًا لطموحه العجيب دون أن يتوقف ليسأل نفسه عن جدواه أو عن عواقبه، ويعمي نفسه عن الفظائع التي ارتكبها في سبيل تحقيق ذلك. وحين يرى نتيجة عمله، يفرّ، بل يشعر بالسعادة عندما وجد المسخ قد فرّ، ويتنصل من مسؤوليته تمامًا! وهو يدعي الحب الشديد لأسرته وأصدقائه، لكنه يهملهم تمامًا حتى ينتابهم القلق الشديد عليه، ويترك خادمته المسكينة تموت ظلمًا. كما أنه مفرط الأنانية، متمركز تمامًا حول ذاته. ولذلك حتى عندما يهدده المسخ بقتل عروسه، يظن أنه هو المعني بالتهديد ويتزوجها على أي حال، دون أن يخطر بباله ما سيحل بالمسكينة إن وجدت نفسها أرملة وهي لا تزال بثوب زفافها بعد أن يغتال مسخ بشع زوجها أمامها، وأنه يعرضها هي نفسها للخطر، إذ من يضمن له أن المسخ لن يقتلها بعد أن يجهز عليه؟ لكن كل هذا لا يهم طبعا، فالجميع كومبارس وهو وحده «جناب الكوماندا المهم!». وهو خلال كل هذا يرى نفسه أكثر المخلوقات بؤسًا واستحقاقًا للعطف، ويملأ الدنيا نحيبًا وعويلًا! أما المسخ، على جانب آخر، فبدأ حياته طيبًا نقيًا، لكنه عندما واجه قسوة الحياة، وفشل في الحصول على مبتغاه ترك لغضبه ورغبته في الانتقام العنان. وبدلًا من أن يتحمل مسؤولية جرائمه، ظل يلتمس لنفسه الأعذار ويلقي باللوم على الجميع إلى أن اضطر إلى مواجهة الحقيقة في النهاية، فقرر أن يقتل نفسه.
ويأتي والتون المستكشف كنموذج مثالي للتعامل مع هذه الموازنة الصعبة. فهو يبدأ بحلم طموح، ولا يجبن من الأخطار التي تحف طموحه هذا، لكن قصة فرانكنشتاين تجعله يعيد حساباته من جديد، ويفكر في جدوى مشروعه الطموح، ويعيد تقييم الأخطار، إذ يدرك أنه لا يخاطر بنفسه فحسب، بل بحياة جميع الرجال على سفينته، وبمشاعر أحبائه الذين سيؤثر فيهم موته، فيتراجع. وقد أثر فيّ تراجع والتون كثيرًا، فأنا أجد صعوبة كبيرة في التراجع عن مشاريعي الطموحة أو أحلامي التي لم تعد مناسبة للسياق لسبب أو لآخر، وأجد في هذا النوع الجريء من مراجعة الحسابات في منتصف الطريق شجاعةً نادرةً.

كنت أودّ أن أتحدث أكثر عن أثر حياة ماري شيلي في خيوط القصة، لكن المجال لا يتسع لذلك. تعال إذن نستمتع بما تبقى من رحلتنا البحرية في طريق عودة والتون إلى بلاده، ولنقف بجواره نعبّ الهواء المحمل برائحة اليود ونشرب قدحًا من القهوة ونفكر في مسارنا الحالي، في مدى واقعية طموحنا، في عواقبه وما إذا كنا نتحملها، في أحبائنا وأثر ذلك عليهم، في الشجاعة التي يجب أن نستجمعها كي نعترف لأنفسنا أننا ربما نحتاج إلى تعديلات جذرية في خطة حياتنا الحالية، في كل التفاصيل التي قد تجنبنا مصير فيكتور فرانكنشتاين.
- توجد نسخة مختصرة مترجمة إلى العربية متاحة إلكترونيًا مجانًا من مؤسسة هنداوي.
- يمكن الحصول على نص القصة الأصلي (باللغة الإنكليزية) كاملًا من مشروع غوتنبرغ.
- يوجد عدد من تسجيلات الكتب الصوتية المجانية (باللغة الإنكليزية) على موقع ليبريفوكس.