يرقص مع الذئاب – Dances with Wolves

مايكل بليك، 1988

تحذير: هذا المقال يحتوي على معلومات مفصلة عن القصة ونهايتها

مروج خضراء على مرمى البصر تحت سماءٍ زرقاء صافيةٍ لا تشوبها شائبة، لا أثر لطريقٍ مرصوفٍ، أو عربات… لا شيء سوى محيطٍ واسعٍ من الخضرة. هل تشعر بكلّ ذلك الهدوء والسلام؟ لست وحدك، فالملازم جون دنبار أيضًا قد وقع في حبّ ذلك المكان البريّ الجميل. كان قد فقد كلّ رغبةٍ في الحياة، لكن زملاءه وقادته ظنّوا أنّ محاولاته المستميتة للانتحار في ساحة المعركة شجاعة نادرة. وعندما ظنّ أنّ دقائق معدودةً تفصله عن الموت أخيرًا فترك لجام حصانه ورفع ذراعيه مستسلمًا، ظنّ زملاؤه أنّه يشجعهم فاستأسدوا في المعركة وانتصروا، وأعلنوه بطلًا بعدها!

غلاف الرواية

لم يعد يستطيع المشاركة في الحرب مجددًا. لا، ليس بسبب الإصابة التي كاد يفقد فيها قدمه، لكنّه اكتفى. اكتفى. كم عامًا مرّ؟ إننا في العام 1865 ولم تنته الحرب الأهلية الأمريكية بعد! ولذلك، عندما أعفي من الخدمة لم يعد إلى الحياة المدنية. تخيل أن يضطر إلى العيش من جديدٍ بين الناس، الكثير من الناس. شراء وبيع وعربات .. واجتماعيات أيضًا! وتفاصيل، و«حضارة».. لا، هذا لا يقلّ سوءًا عن ساحة المعركة. ولهذا، عندما سأله قائده عمّا يريد أن يفعل بعد أن يتعافى من جراحه لم يتردد.

❞- لطالما أردت العمل في نقطةٍ قريبة من الحدود.

= أين بالضبط؟

– لا يهم، أي مكانٍ على الحدود.

= لا بأس إذن.

– سيدي، هل أستطيع الاحتفاظ بالحصان أيضًا؟

= بالطبع تستطيع ذلك! ❝

كانت المنطقة الحدودية المذكورة تتكون من مساحاتٍ شاسعةٍ من المروج الخضراء التي لم يبلغها العمران بعد، ولهذا كان يتمنى أن يذهب إلى هناك. وعندما وصل إلى الثكنة العسكرية التي كلّف بالخدمة فيها، ثكنة سيدج-ويك، وجد مفاجأةً سارّةً في انتظاره، فالثكنة مهجورة تمامًا! ظلّ ملتزمًا بأداء الروتين العسكريّ، وكلف نفسه بعدة مهمّات، كتنظيف مجرى النهر الذي تركه الجنود مليئًا بالقاذورات من كلّ نوع، وحرص على تسجيل كلّ تفاصيل يومه في دفتر مذكّراته إلى أن يصل المشرفون والزملاء. لكن مع مرور الوقت، بات من الواضح أنّه -لسببٍ أو لآخر- لا يوجد أيّ مشرفين أو زملاءٍ في الطريق. أقلقه هذا في البداية، لكنّه سرعان ما قرر أن يستمتع بهذه الفرصة النادرة! هدوء تام، فلا يوجد سواه وحصانه الحبيب الذي يمتطيه فيجوب به البراري وحيدًا حرًّا، وذلك الذئب اللطيف الذي يتبعه ككلبٍ، والذي أطلق عليه اسم «ذي الجوربين»، لبياض قائمتيه الأماميتين وكأنه يرتدي جوربين.

شيء واحد كان يقلقه: قبائل الهنود الحمر، لكنه لم ير أيًّا منهم منذ أن جاء، فلا داعي للقلق إذن، صحيح؟ … سلام، طبيعة ساحرة، هدوء، حرية، حصانه المفضل، وذو الجوربين.. لكنّ الإنسان كائن ملول، والملازم دنبار إنسان، وبمرور الوقت، تسللّ إلى قلبه شيء من الوحشة والشوق إلى أن يرى إنسانًا آخر. لكنّه بالتأكيد لم يكن يتمنى أن يكون أول من يراه هو «الطائر الذي يركل»، وهو اسم غريب لو أردت رأيي، خاصةً في موقفٍ محرجٍ كهذا. كان يستحم ويغسل ملابسه في النهر وقد ترك أسلحته في المبنى، وكاد يموت رعبًا حين وجد أنّ أحد الهنود الحمر قد طاب له أن يهاجم الثكنة في هذه اللحظة بالذات فاختبأ وراء صخرةٍ وراح يراقب المتسلل سرًّا. وعندما همّ المتسلل بسرقة حصانه الحبيب، لم يستطع أن يتمالك نفسه، فخرج من مخبأه وهو يصرخ، ويبدو أن الرجل كان وحيدًا فخاف وفرّ.

كان الشعور متبادلًا. «الطائر الذي يركل» أيضًا لم يكن سعيدًا باللقاء. أدرك جميع من في قبيلة هنود الكمانتشي أنّ خطبًا ما قد حلّ بطبيبهم، لكنّهم انتظروا حتى يبادر هو بالكلام كعادتهم. مرّت عدة أيامٍ قبل أن يحكي ما حدث لزعيم القبيلة. لقد ذهب «الطائر الذي يركل» نحو حصن الرجل الأبيض، ووجد حصانًا رائعًا، كان على وشك الإمساك به حين خرج له شبح، أو ربما روح ما، بدت له كرجلٍ أبيض عارٍ يلمع في ضوء الشمس ويصرخ!

روح ما في الجوار إذن.. إنها علامة لا تبشر بخير. تطيرت القبيلة كلّها إلا امرأةً واحدةً كانت متيقنةً أنّه مجرد رجلٍ أبيض عاديٍّ لا أكثر. كان اسمها هو «تقف بقبضةٍ مرفوعةٍ»، وإذا دقّقت النظر، ستجد أنّ «تقف بقبضةٍ مرفوعةٍ» تبدو مختلفةً قليلًا عن باقي قومها. وهذا لأنّها امرأة بيضاء أخذها هنود الكمانتشي في طفولتها، ونمت بينهم حتى صارت واحدةً منهم. لكنّ الخبر الرهيب الذي بلغها في ذلك اليوم لم يتح لها أيّ فرصةٍ للتفكير في أمر الرجل الأبيض. لقد مات أغلب المقاتلين الذين أرسلتهم القبيلة لمواجهة قبيلةٍ معادية، وكان زوجها ضمن القتلى.

كانت «تقف بقبضةٍ مرفوعةٍ» شديدة التعلق بزوجها، ولم تستطع أن تهضم الخبر. راقبتها النسوة في صمتٍ وهنّ يمارسن أعمالهنّ اليومية طوال الساعات التي ظلت فيها جالسةً كصنم لا حياة فيه، واستطعن التدخل في اللحظة الأخيرة لإنقاذها من محاولة انتحارٍ مفاجئة. وفي الصباح التالي، غادرت القبيلة لتذهب إلى مكانٍ منعزلٍ تؤدي فيه طقوس وداع زوجها كما هي العادة، ولم تنس أن تأخذ خنجرها.

كادت «تقف بقبضةٍ مرفوعةٍ» تقتل نفسها بالفعل، لكنّ الملازم دنبار، الذي كان يمتطي حصانه في الجوار كعادته، وجدها، واستطاع أن يتغلب على صدمته وأن يضمّد جراحها في الوقت المناسب. أدرك من ملبسها أنّها من هنود الكمانتشي، وقرر أن يعيدها إلى قبيلتها، وليحدث ما يحدث!

مشاعر متخبطة كثيرة كانت في انتظاره خلال الساعة التالية. أولًا، ذلك الشعور الساحق بالانبهار بجلال المشهد أمامه وهو يهبط المنحدر على ظهر حصانه ويتأمل مشهد المخيّم البدائيّ وسط الطبيعة الرائعة من حوله، وكأنّها لوحة مرسومة غير حقيقيّة، كم تمنى أن يشاهد بنفسه هذه الحضارة الأصيلة التي لم تفسد بعد! استمرّ الشعور بالانبهار والانفصال عن الواقع وهو يرى الهرج الذي ساد المخيم بعد أن رأته امرأة فصاحت تنبه قومها. لكنّ شعورًا خانقًا خامره حين انتبه أنّ مجيئه هو ما سبّب ذلك الذعر العامّ الذي ساد القبيلة، وأنّ هذا هو الشعور الذي يشعر به الغازون بلا شك. لم يحتمل الفكرة فأوقف حصانه وترجل. راح يدير عينيه في الرجال الذين وقفوا بأسلحتهم يسدون مدخل القرية، ثم رفع ذراعيه الخدرتين اللتين حملتا الفتاة فاقدة الوعي وصاح: «ها هي، خذوها من فضلكم».

بدا الارتباك واضحًا على الرجال الذين لم يفهموا ما أراده الغريب، لكنّ أحد محاربيهم، وكان اسمه «الرياح في شعره»، ترجّل أخيرًا وسار في اتجاه الملازم دنبار بوجهٍ صارم. كان التوتر العامّ يزداد مع كلّ خطوة يقطعها المحارب باتجاه دنبار، وما إن رأى «الرياح في شعره» وجه المرأة التي يحملها الرجل الأبيض حتى تعرف عليها فورًا، وأفصح وجهه عن صدمته الشديدة، فانتزعها من ذراعي دنبار فورًا واستدار باتجاه القرية وهو يصيح بشيء ما بلغته، فصعق جميع الواقفين وأتوا يركضون باتجاهه.

وبينما وقف دنبار يتأملهم وهم يبتعدون عنه باتجاه قريتهم والقلق على الفتاة بادٍ على وجوههم، سيطر عليه شعور كاسح أخير. يصف الكاتب حالة دنبار النفسية في ذلك الموقف كما يلي:

❞وقف الملازم أمام حصانه دون حركة، وبينما التفت القرية حول «الرياح في شعره» شعر بروحه تخرج من جسده. هؤلاء ليسوا قومه. لن يعرفهم أبدًا. لا فارق بين أن يكون هنا أو أن يكون على بعد آلاف الأميال. أراد أن يكون صغيرًا، صغيرًا بما يكفي ليزحف داخل أصغر الحفر وأشدّها ظلمة. ماذا كان يتوقع من هؤلاء الناس؟ لا بد أنّه ظنّ أنهم سيهرعون إليه ويستقبلونه بأذرعٍ مفتوحة، ويتحدثون لغته، ويدعونه إلى العشاء، ويتبادلون الدعابات معه ❝

شعر الملازم دنبار بإحباطٍ مزّق قلبه ألمًا، وهو ما صدمه. لماذا يشعر بالإحباط؟ لحظة! هل كان حقًا يتمنى في قرارة نفسه أن يتلقى ترحيبًا من الهنود الحمر؟ ياله من اكتشافٍ مهين! هل بلغت به الوحدة ذلك الحد؟ هل خلت الدنيا كلها من شخصٍ واحدٍ يلقي عليه التحية حتى؟ هل تخلى عنه العالم كلّه فلم يتبق أمامه إلا الهنود الحمر؟! كم هو أحمق! كم هو مثير للشفقة! شعر أنّه ينسحق تحت وطأة أزمته النفسية تلك، وكأنّ أحدهم قد ضغط على زرٍ في أعماقه فأطفأ نور روحه. 

أما في معسكر هنود الكمانتشي، فقد قرر زعيمهم ألّا يضيع تلك الفرصة الذهبية. لقد أتى الجنديّ الأبيض منفردًا ليعيد لهم «تقف بقبضةٍ مرفوعة» في سلام. قدر زعيم الكمانتشي خطأً أنّ دنبار رجل مهم ذو نفوذ. وقرر أن يرسل اثنين من أفضل رجاله للتفاوض معه. ومن أفضل من «الطائر الذي يركل» طبيب القبيلة، و«الرياح في شعره» المقاتل الشجاع؟ اللغة؟ لا، هم لا يتحدثون إلا لغة الكمانتشي، ودنبار لا يتحدث إلا الإنكليزية، لكن هذه تفاصيل فرعية صغيرة، ولن توقف المفاوضات، أليس كذلك؟

علم قب الكُمانتشي الحقيقي

لم يفهم أيّ من الطرفين ما يقوله الآخر، لكنّ ذلك لم يثن دنبار -الذي سرته زيارتهما- عن المحاولة. كان قد استيقظ منتعشًا بعد نومٍ عميقٍ طويل، ولمّا كان يشتاق إلى قهوته الصباحية، فقد قدّم قدحين من القهوة إلى ضيفيه. وتعمّد إطالة مراحل إعدادها من طحن الحبوب حتى صبّها في القدح ليرضي نزعته الطفولية في إبهار ضيفيه. كان عليه أن يتحول إلى «أراجوز» كي يحاول أن يفهمهما ما يريد أن يقول باستخدام لغة الإشارة المرتجلة. اندمج الثلاثة في حوارهم العجيب، وفي النهاية، عاد الرجلان إلى مخيّم الكمانتشي وهما يحملان أكياس القهوة والسكر التي أهداها إليهما الملازم دنبار، لم يتمالك «الرياح في شعره» نفسه من الضحك وهو يتذكر بعض محاولات دنبار المستميتة للتواصل بالإشارة، مثل تلك المرة التي أراد فيها أن يحدثهما عن أسراب الجاموس البريّ، فقرر أن يتحول إلى جاموسة! فحشر ملاءةٍ تحت ظهر قميصه ليبدو ظهره ضخمًا، ومدّ ذراعيه بجوار أذنيه ليوحي بوجود قرون، وراح يمشي على ركبتيه!

بعد عدة لقاءاتٍ بين الرجال الثلاثة، دعي الملازم دنبار أخيرًا إلى قريتهم لمقابلة زعيمهم. وهو جزء فائق الإمتاع من القصة يستعرض الاختلافات العديدة في الثقافة والعادات والارتباك العامّ بين طرفين يريدان التواصل ولا يعرفان لذلك سبيلًا. لكن من قال إنه لا سبيل للتواصل؟ ماذا عن الفتاة التي أنقذها دنبار، «تقف بقبضةٍ مرفوعة»؟ صحيح أنّها من نساء الكمانتشي، لكنّها امرأة بيضاء أصلًا، وقد جاءت إليهم في السابعة من عمرها وهي لا تتحدث سوى الإنكليزية. لكنّ إقناعها لم يكن سهلًا. 

❞قال الطائر الذي يركل: «إن البيض قادمون، وسوف يزيد عددهم في بلادنا خلال السنوات القادمة» سرت رجفة في جسد «تقف بقبضةٍ مرفوعة»، وجمدت عيناها، وتكورت يداها إلى قبضتين دون أن تشعر. قالت: «أنا لن أذهب معهم«. ابتسم الطائر الذي يركل وقال: «لا، لن تذهبي، لا يوجد مقاتل من بيننا لن يقاتل لتبقي بيننا». بعدما سمعت هذه الكلمات التشجيعية، مالت إلى الأمام قليلًا في فضول. تابع كلامه قائلًا: «لكنهم سيأتون. إنهم قوم غريبو العادات والمعتقدات، ومن الصعب أن نحدد ماذا سنفعل. يقولون إنهم كثيرون، وهذا يزعجني. إذا أتوا كالفيضان، سيتوجب علينا أن نوقفهم. وعندها، سنفقد الكثير من الرجال الصالحين، رجالٍ كزوجك. سيكون هناك الكثير من الأرامل بوجوه حزينة» ❝

لم يكن أمامها سوى قبول مهمّتها الكريهة: أن تتواصل مع رجلٍ أبيض بلغة البيض التي تكرهها. وهي لا تكرهها فقط، بل نسيتها تمامًا أيضًا. حاولت أن تسترجع لغتها القديمة قدر استطاعتها، لكنّ الأمر لم يكن سهلًا، وإن كان الاعتماد على ترجمتها أفضل من التواصل بالإشارة فقط. وجد دنبار نفسه في موقفٍ صعب حين سأله زعيم القبيلة عمّا إذا كان الرجال البيض آتين، وعن عددهم أيضًا… كان دنبار مسرورًا بالتطورات الأخيرة وبصداقته مع القبيلة. لكنّهم يطلبون منه الإفصاح عن معلوماتٍ عسكرية! وهذه خيانة! توتر في البداية، لكنّه تذكر أنّ ثكنته مهجورة، وأنّ الجيش نسى وجوده أصلًا، فقال غير كاذبٍ: «أنا لا أعرف!». ورغم أنّ سكّان المخيّم أدركوا أن دنبار مجرد جنديٍّ عاديٍّ لا سلطة له، تكررت دعواتهم له في قريتهم. أرادوا أن يختاروا له اسمًا بلغتهم لكنّهم لم يجدوا اسمًا مناسبًا، وعندما وجدوه يلاعب ذئبه شبه-الأليف «ذا الجوربين» ذات مرّة، وجدوا ضالتهم: سيكون اسمه «يرقص مع الذئاب»، وهو اسم أعجبه كثيرًا، فحفظ نطقه بلغة الكمانتشي.

استمرت الاجتماعات بين دنبار -أو «يرقص مع الذئاب»- ورجال القبيلة بمصاحبة الترجمة الفورية الكسيحة، لكنّ نقلةً نوعيةً في العلاقة بين الطرفين حدثت عندما أتى دنبار يبشرهم بقدوم أسراب الجاموس البريّ أخيرًا بعدما أقنطهم تأخرها الشديد. ينطلق «يرقص مع الذئاب» مع القبيلة لإنشاء المعسكر المؤقت لصيد الجاموس البريّ، ويعيش أكثر لحظات حياته إثارةً وهو يتعلم معهم كيفية تشكيل «كمّاشة» من المحاربين حول الجاموس لصيده، وعندما يجتمع المحاربون ليبدوا إعجابهم بصيده وشجاعته، يفهمهم دون الحاجة إلى ترجمة، وتمتلئ نفسه بلونٍ جميلٍ من ألوان الرضا لم يعرفه من قبل.

بدأ «يرقص مع الذئاب» في تعلم لغة الكمانتشي بسرعةٍ ملحوظة، وخصصت له القبيلة خيمةً خاصةً لإقامته، فانتقل للإقامة بينهم بشكلٍ كامل، وعندما وقع في حب «تقف بقبضةٍ مرفوعة» وبادلته هي الشعور، أذن لهما بالزواج. مع إنشاء أسرةٍ بين الكمانتشي، قطعت آخر صلةٍ له بالعالم الخارجي وانغمس تمامًا في حياة المخيم التي كان يعشق كلّ تفصيلةٍ من تفاصيلها: مثل اكتفائهم الذاتيّ، وترابطهم الشديد وتعاضدهم، وصراحتهم التي قد تبدو فظةً أحيانًا لكنّها تثير راحةً غريبةً في نفسه. كان يشعر بالانتماء، والأمان، والمسؤولية، والاحترام. وقد أدرك السبب وراء شعوره هذا عندما تعرضت القبيلة للهجوم من قبيلةٍ أخرى ذات يوم، فقتل بعض المعتدين مع الرجال الآخرين. شعر في البداية بالنفور من صيحات السعادة التي أطلقها محاربو الكمانتشي احتفالًا بقتلهم أعداءهم. صحيح أنه جندي، وأنه قتل أفرادًا من العدو في الحرب من قبل، لكن، كيف يحتفل المرء بقتل أعدائه وجثثهم لا تزال دافئةً أمامه؟ ثم أدرك فجأةً أنّ المقارنة بين الحالتين لا تجوز. فهو لم يقتل أعداءً أجبروا على قتاله كما أجبر هو على قتالهم من أجل مفاهيم سياسيةٍ وخلافاتٍ أيدولوجيةٍ لكيانٍ كبيرٍ لا يعبأ بهما معًا، بل كان رجلًا يخاطر بحياته مع رجال القبيلة لصدّ مهاجمين تسللوا بغرض قتل نساء القرية وأطفالها، قتلهم دفاعًا عن زوجته، وعن قريته التي أصبح يحبّها أكثر من نفسه. هذا هو الفرق بين قتاله في الحرب الأهلية وقتاله في القبيلة، هذا هو الفرق بين حياته السابقة وحياته الحالية، مجتمعه السابق، ومجتمعه الحالي. 

لكنّ السعادة لا تدوم، فسرعان ما يعلم «يرقص مع الذئاب» أنّ قوات الجيش قد ملأت الثكنة المهجورة استعدادًا للهجوم على كل القبائل في المنطقة، وينطلق ليحاول استعادة مذكراته التي كتب فيها تفاصيل كثيرةً عن القبيلة، لكنّ الجنود يعتقلونه، ويقتلون كلًّا من حصانه الحبيب وذئبه «ذي الجوربين» فينفطر قلبه ألمًا. ثم ينجح مقاتلو الكمانتشي في استعادة «يرقص مع الذئاب» من الجنود البيض في مخاطرةٍ كبيرة، ويرفضون طلبه النبيل لهجر القبيلة مع زوجته كيلا يأتي الجنود البيض بحثًا عنه باعتباره خائنًا. لكنّ الخوف والقلق يسيطران عليهم رغم ذلك. ونشعر بفداحة المشكلة حين نجد زعيمهم، الرجل الحكيم الوقور الهادئ، يظهر مخاوفه وضجره للمرة الأولى. قال وهو يخرج خوذة أحد الغزاة الأسبان كان قد ورثها عن جدوده:

❞كان هؤلاء أول من أتى إلى بلادنا، جاءوا على ظهور جيادهم، لم يكن لدينا خيول في ذلك الوقت. ضربونا ببنادق تطلق الشرر لم نكن قد رأينا مثلها من قبل. كانوا يبحثون عن بعض المعادن اللامعة، وكنا نخشاهم. كان هذا في زمن جدّ جدّي. في النهاية، استطعنا أن نطردهم. ثم بدأ المكسيكيون في المجيء، كان علينا أن نحاربهم، وانتصرنا. وفي زمني أنا، بدأ البيض في المجيء. أهل تكساس كانوا يبحثون عن أشياء يريدونها في بلادنا كالآخرين، فكانوا يأخذونها دون استئذان، وكانوا يغضبون إذا وجدونا نعيش في أراضينا التي تقع في بلادنا، وإذا لم نطعهم، كانوا يحاولون قتلنا، وكانوا يقتلون النساء والأطفال وكأنهم محاربون. ثم بدأت المفاوضات لتحقيق السلام، لكنّهم كانوا دائمًا يكسرون وعودهم لنا. في النهاية، سئمت الأمر كلّه فقدت قومي إلى هنا عند الحدود، في أبعد مكانٍ ممكنٍ عن البيض، وقد عشنا في سلامٍ هنا لفترةٍ طويلة. لكنّ هذا آخر مكان تبقى على أطراف بلادنا. لم يعد أمامنا أي مكانٍ آخر نذهب إليه. لا أعرف ما يجب أن أفعل. لطالما كنت رجلًا مسالمًا، سعيدًا بالبقاء داخل أرضي، ولم أرغب في الحصول على أي شيء من البيض، لا شيء على الإطلاق. لكن إذا أتوا، فلا سبيل إلا القتال ❝

تنتقل القبيلة إلى مكانٍ معزولٍ في البراري، حيث يقضون موسمًا مثاليًا سعيدًا، هو موسمهم الأخير قبل أن يجدهم جنود الرجل الأبيض. وللقصة جزء ثانٍ بعنوان «الطريق المقدس» عن حياة «يرقص مع الذئاب» وزوجته بعد ذلك. 

مايكل بليك، مؤلف الرواية

تيمة البطل الذي يهجر عالمه المعقد المزيف وينتقل إلى عالمٍ أبسط وأرحب هي تيمة مكررة جذابة للغاية، وإن كانت نادرةً في قصص الـ«وسترن»، مثل «يرقص مع الذئاب» و«رجل اسمه حصان»، وهي قصة أخرى مشابهة اتهم البعض الكاتب باقتباس قصته منها. والقصة فانتازيّة رومانسيّة بالطبع، فعلى الرغم من استعراض الكاتب لتنوع قبائل السكّان الأصليين واختلاف طباعهم، لم يكن الأمريكيون يرون السكان الأصليين إلا كمجموعةٍ واحدةٍ من البرابرة الجهلة الذين يجب قتلهم بلا تفكير. ورغم أن الكاتب كتب روايته بهدف تحويلها إلى فيلمٍ سينمائيٍ منذ البداية، فقد كتبت بأسلوبٍ أدبيٍّ بالغ الجمال. واختار الكاتب أن تروى القصة من منظور راوٍ خارج القصة يلمّ بكلّ التفاصيل الخارجية أو الداخلية في أعماق نفس الملازم دنبار الذي نعايش القصة من وجهة نظره. فالقصة كلّها رحلة في أفكار دنبار، ومشاهداته، وملاحظاته، والتغيرات التي تطرأ عليه. حتى الشخصيات والأحداث والمشاهد، كلّها لا نراها بشكل موضوعيٍّ كما هي، بل نراها من خلال حالة دنبار النفسية وتطور شخصيته مع مرور الوقت.

كما أجاد الكاتب استغلال الرموز بسلاسة لنستوعب التحول الكبير الذي مرّ به دنبار ونقتنع به. ومن ضمنها دلالة الاسم والزيّ العسكري. فنجد دنبار يلتزم بشكلٍ متطرفٍ بكل تفاصيل الزيّ العسكريّ بعد لقائه الأول بالهنود الحمر، كي يثبت لهم هويّته. لكنه يبدأ في مقايضة بعض أجزاء الزي العسكري بحليّ الهنود الحمر، إلى أن يتخلى تمامًا عن زيّه العسكري ويرتدي زي القبيلة. كما أن الكاتب يشير إليه بـ«الملازم جون دنبار» فقط في البداية، وبعدما يطلق عليه الهنود اسم «يرقص مع الذئاب»، نجده أحيانًا يشير إليه باسم دنبار، وأحيانًا أخرى باسم «يرقص مع الذئاب» بحسب الموقف، إلى أن يختفي اسم دنبار تمامًا في الثلث الأخير من القصة. فهو لم يعد دنبار، دنبار اختفى، وحلّ محلّه إنسان جديد بقيمٍ جديدةٍ ونظرةٍ جديدةٍ للحياة، إنسان اسمه «يرقص مع الذئاب». 

5 تعليقات على “يرقص مع الذئاب – Dances with Wolves”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *