عروس الشبح – The Ghost Bride

يانغشي تشو، 2013

تحذير: هذا المقال يحتوي على وصف لبعض أحداث القصة

أرى أنك لا تحبّ الأمطار الصيفيّة والحرّ الخانق، لكنّها طبيعة المغامرات الاستوائية، ولن يكون الجوّ مشكلتنا الوحيدة اليوم على أيّ حال! نحن الآن في مدينة ملكّا أو ملقّا الماليزية بأدغالها الكثيفة ومرفئها الشهير، وهي خالية من مظاهر الحداثة المميّزة لها الآن، لأننا في عام 1893. لنسرع قبل أن يفوتنا مشهد البداية! أين منزل عائلة «پان»؟ ها هو!

صورة حديثة من مدينة ملقَّا الماليزيَّة

هذه الفتاة الحسناء هي پان لي-لان، أصغر أفراد عائلة «پان» ذات الأصول الصينية، وهي لم تتجاوز السابعة عشرة من عمرها. كانت أسرتها ميسورة الحال إلى أن أصيب والدها في شبابه بالجدريّ، فتشوه وجهه وتوفيت أمّها بالمرض نفسه ليتركا ابنتهما لي-لان يتيمةً وهي بعد في الرابعة من عمرها. واستغلّ شركاء والدها في العمل الصدمات المتتالية التي تعرض لها المسكين ليستولوا على كلّ شيء ويتركوه صفر اليدين. عزل والد لي-لان نفسه عن العالم، ولجأ إلى عادة تدخين الأفيون يوميًّا ليسكّن آلامه ومخاوفه من ديونه المتزايدة، وحالة الأسرة الماديّة الميؤوس منها. واستغرق تمامًا في قراءة الآداب والعلوم الكونفوشيوسيّة الصينيّة التي حرص على تعليمها لابنته منذ صغرها، رغم أنه لم يكن ينوي أن يعود إلى الصين. في تلك الليلة الموعودة التي سقطت فيها أوّل قطعة دومينو لتبدأ سلسلة أحداث طويلة، جلست لي-لان تحاول أن تهضم ما سمعته من والدها للتوّ.

❞= ماذا قلتَ يا أبي؟
– عروس شبح يا لي-لان. لقد توفّي وريث عائلة ليم منذ بضعة أشهر، وهم يريدونك أن تكوني عروسه ❝

كان زواج الأشباح تقليدًا معروفًا بين الصينيين في ملاكّا، لكنّه لم يكن شائعًا، لا في الحقيقة ولا في قصتنا، وكان ذلك التقليد على علاقة وثيقة بالمعتقدات السائدة في الثقافة الصينية. فكان الناس يلجأون إلى عقد مراسم الزواج بين الأرواح لتهدئة روح غاضبة كيلا تلحق الأذى بالناس، أو لعقد شراكة بين عائلتين توفي أبناؤهما. وفي حالات نادرة، كانت المراسم تعقد لإعلان زواج أحد الأحياء من روح شخص ميت. وكان هذا غالبًا ما يتمّ لرفع مكانة الجارية التي لها أولاد إذا توفي سيدها ولم يكن له ذرية من زوجته الرسمية، أو إذا توفي رجل ذو مكانة دون أن يتزوج، فكانت عائلته تختار فتاةً من أسرة فقيرة، وتعلنها زوجةً له بعد إقامة المراسم المطلوبة، فتعيش بقية حياتها كأرملة لذلك المتوفّى، وبذلك تضمن عائلة المتوفّى أن تكون له زوجة تواظب على إقامة مراسم تقديس الموتى لروحه، فينعم هو بالسلام في العالم الآخر، ويتركهم في سلام دون أن يسبب لهم المشكلات.

لنعد إلى لي-لان المصدومة، التي قال لها والدها وقد رأى ارتباكها:

❞بالطبع لم أوافق! كيف لي أن أجرؤ؟ رغم أنّ الفكرة ليست بهذا السوء إن كنت لا تهتمّين كثيرًا بالحبّ أو إنجاب الأطفال، فسوف يوفرون لك المسكن والملبس طوال حياتك ❝

كانت لي-لان تعرف أنّ وضع الأسرة سيئ، وأنّ والدها يدين بالكثير من المال لعائلة ليم، أثرى العائلات الصينية في ملاكّا وأعرقها، لكنّها لم تدرك فداحة الوضع حتى تلك اللحظة. على أيّ حال، ظنّت لي-لان أنّ الأمر قد انتهى برفض والدها، وعندما أرسلت إليها عائلة ليم دعوةً لحضور أمسية احتفالية هناك لم تشكّ في الأمر، وقضت ليلةً رائعةً في أجواء قصر عائلة ليم الفخم. ولم تثر ريبتها أسئلة السيدة ليم -والدة الابن المتوفّى- عمّا إذا كانت مخطوبةً، ولم تشعر بخيوط العنكبوت تنسج حولها عندما طلبت منها السيدة ليم أن تأخذ الشريط الورديّ الذي ربطت به لي-لان شعرها، بحجة أنّها تريد أن تبحث عن قماش بنفس درجة اللون. أمّا ذلك الكابوس البشع الذي رأت فيه الابن المتوفى «ليم تيان-تشينغ» يطالبها بأن تكون عروسه ويحاول التقرّب إليها فيه، فلم تأخذه على محمل الجدّ.

تكررت دعوة عائلة ليم للي-لان، وصار من الواضح أنّهم يولونها اهتمامًا خاصًّا. لي-لان أيضًا لم تستطع أن تتوقف عن التفكير في عائلة ليم، ليس فقط بسبب الإعجاب المتبادل بينها وبين الوريث الجديد لعائلة ليم، وهو ابن عمّ الوريث المتوفّى، لكن لأنّ تجاهل كوابيسها اليومية لم يعد ممكنًا. في كلّ ليلة كانت تجد نفسها في عالم غريب، يحتوي على ما يبدو أنّه قصر عائلة ليم. نفس الحدائق الغنّاء والبحيرة، نفس الفواكه الوفيرة والخدم… لكنّ هذه المشاهد الجميلة كانت تثير فيها شعورًا بالنفور والخوف. ومن يستطيع أن يلومها؟ تخيّل أن تجد نفسك في حديقة تبدو كلّ أشجارها متطابقةً تمامًا، ويتحرك فيها الخدم بشكل ميكانيكيّ آليّ مثير للتوجس، ورصت فيها الفواكه في الأطباق على هيئة أهرامات كما يفعلون في الجنائز…

أدركت لي-لان أنّ العالم الذي ترتاده كلّ ليلة رغمًا عنها هو عالم ما بعد الموت. واحتملت كوابيسها المزعجة في البداية، إلى أن بدأ «ليم تيان-تشينغ»، وريث عائلة ليم المتوفّى، في الظهور في تلك الكوابيس الليلية المريعة ليطالبها بقبول الزواج منه. هددها قائلًا:

❞ لا خيار لك في هذه المسألة يا لي-لان. سوف أدمر والدك. أنت لا تعرفين قدر نفوذي هنا ❝

حاولت لي-لان بكلّ ما أوتيت من قوة أن تظلّ مستيقظة، لكنّ النوم كان ينتصر عليها في النهاية، فتجد نفسها مع «ليم تيان-تشينغ» في عالمه الذي يثير فيها التقزز والرعب. كانت تزداد انطفاءً ليلةً بعد ليلة، إلى أن مرضت. لم تستطع أن تقصّ على والدها سرّها، فهو رجل كونفوشيوسيّ متعصّب، لا يؤمن بالأشباح والمعتقدات الشامانية، ويردد قول كونفوشيوس إنه “من الأفضل ألا يركز المرء على قصص الأشباح والآلهة، بل على العالم الذي نعيش فيه” كما تخبرنا لي-لان. أما مربيتها، فهي تؤمن بالخرافات أكثر من اللازم، وسوف يصيبها الرعب والهستيريا بلا شك. لكنّها لم تجد مفرًّا من أن تخبر مربيتها عن معاناتها في النهاية. آه! لقد أصيبت المربية العجوز بالذعر كما هو متوقع، لكنّها لم تفقد رباطة جأشها، بل كانت تعرف تمامًا كيف يجب أن تتصرف. اصطحبت المربية “لي-لان” إلى وسيطة روحية تثق بها، واضطرّت لي-لان أن تجلس لفترة طويلة تنتظر دورها، إلى أن ينتهي الرجل ذو الزيّ قديم الطراز والقبعة الضخمة المصنوعة من الخيزران من حديثه المطولّ مع الوسيطة الرّوحية. وعندما انصرف أخيرًا، أكدّت الوسيطة الروحية مخاوف لي-لان، فـ«ليم تيان-تشينغ» يتبعها بالفعل، لكن ما هذه القنّينة المريبة التي تعطيها الوسيطة الروحية إلى لي-لان؟ يبدو أنّها خلطة دوائية خاصّة لإبعاد الأشباح العنيدة. أوصت الوسيطة لي-لان بأن تتناول القليل منها كلّ ليلة قبل النوم حتى يعجز شبح «ليم تيان-تشينغ» السخيف عن جرّها إلى عالمه المروّع أثناء نومها، وحذّرتها من تجاوز الجرعة المحددة.

أخيرًا، نوم عميق مريح بلا كوابيس، تصحو منه وقد شحنت طاقتها.. لكنّ هذا السلام لم يدم طويلًا. وكأنّ العراقيل المستمرة التي تفصل بينها وبين وريث عائلة ليم الجديد الذي تميل إليه بشدّة لا يكفيها، فقد استطاع شبح «ليم تيان-تشينغ» السمج أن يصل إليها مجددًا رغم حرصها على تناول الخلطة الدوائية العجيبة، وهو لم يكتف بذلك، بل ادّعى أنّ الوريث الجديد قتله ليأخذ مكانه، وراح يثير في صدرها الشكوك حول أول شابّ تحبّه في حياتها. في الليلة الموعودة، شعرت لي-لان أنّ الكيل قد فاض بها، فشربت جرعةً أكبر من المعتاد من خلطتها الدوائية رغم تحذيرات الوسيطة الروحية، زيادة بسيطة في الجرعة لن تضرّ، صحيح؟ 

صحيح أنّ شبح «ليم تيان-تشينغ» لم يزعجها في تلك الليلة، لكنّها اكتشفت مبلغ حماقتها في الصباح التالي. استغرق الأمر بعض الوقت كي تدرك هوية الفتاة الشاحبة الراقدة على الفراش أمامها وهؤلاء الذين اجتمعوا حولها يبكون. إنّها هي، لي-لان نفسها، لكن كيف ترى نفسها من بعيد؟ ولماذا لا يسمعها أحد؟ هل ماتت إذن؟ لا. لم تمت. لقد لفظ جسدها روحها، لكنّها لم تمت بعد. حاولت لي-لان أن تدخل جسدها مرةً أخرى، لكن دون فائدة. يبدو أنّ الدواء المخصص لطرد الأرواح قد طرد روحها نفسها! ترى كيف شخّص الطبيب حالتها؟

❞لقد تناولت خليطًا من الأفيون وبعض الموادّ الأخرى التي لا أعرفها. أبقوا جسدها دافئًا، وأطعموها حساء الدجاج لو استطعتم، قد تفيق من غيبوبتها، لكن يجب أن تعدوا أنفسكم للأسوأ. لقد تناولت جرعةً زائدةً من دواء ما قلّل التشي أو طاقة الحياة لديها بشكل كبير، لكنّها لا تزال شابّةً، وقد يتمكن جسدها من تكسير السموم ❝

فشلت كلّ محاولات لي-لان في العودة إلى جسدها، فقررت أن تخرج من المنزل لتجرب حظّها، وتجوب تلك الشوارع التي لم يكن يسمح للشابات بالمشي فيها بحرية.  لكن الشوارع كانت مزدحمةً بالأرواح والأشباح من كلّ نوع، ولم تكن كلّها أشباحًا مسالمة! وبعد عدة مغامرات صغيرة استغرقت يومين، رأت لي-لان رجلًا مألوفًا. كان يرتدي زيّ الـ«هان» الصينيّ القديم، ويخفي وجهه بقبعة ضخمة من الخيزران، إنّه الرجل الذي رأته عند الوسيطة الروحية! لكنّ الغريب في الأمر هو أنّه كان يتحدث مع حارس من حرّاس العالم الآخر ذوي الرؤوس الشبيهة برؤوس الثيران! والأغرب، هو أنّهما كانا يتحدثان عنها، أو للدقة، كانا يتحدثان عن «ليم تيان-تشينغ» وتجاوزاته لقوانين العالم الآخر التي شملت مضايقاته المستمرّة لها. استرقت السمع في الخفاء، وما إن انصرف الحارس ذو رأس الثور، حتى قال الرجل ذو الزيّ الغريب:

❞- يمكنك الخروج الآن.

= هل كنت تعرف أنني هنا طوال الوقت؟

– إذا أردت أن تتبعي شخصًا في الخفاء، فلا تتبعيه عن قرب هكذا!

= لم أكن أعرف أنّك تستطيع أن تراني!

– بالطبع أستطيع أن أراك! ❝

علمت لي-لان أنّ الرجل ذا القبعة الضخمة اسمه «إر-لانغ»، سألته أخيرًا:

❞= لكن من أنت؟ أو ما أنت؟ بعبارة أصح؟ ولماذا تهتم بليم تيان-تشينغ؟، أنت لست شبحًا، صحيح؟
– اعتبري أني كيان من نوع آخر، موظف صغير، محقق خاصّ…
= وأنت تتحرى عن ليم تيان-تشينغ؟ ماذا فعل؟
– أفعاله تدلّ على تورطه في الرّشوة والفساد، وهو نمط تكرر مؤخرًا ويدلّ على تورط واحد من قضاة الجحيم التسعة في فساد واسع النطاق. ويجب أن نكتشف من هو، لأنّ دائرة العنف إذا خرجت من أرض الجحيم تسبب الزلازل والفيضانات والكوارث الطبيعية الأخرى.
= إذن هل تستطيع أن تعيد روحي إلى جسدي؟
– للأسف الشديد، هذا يتجاوز السلطات المخوّلة إليّ. ❝

بعد مناقشات مطولة مع إر-لانغ، أدركت لي-لان أنّ سبب مشكلتها الحاليّة هي أنّها آذت نفسها رغم علمها المسبق بالمخاطر، وأنّه ليس أمامها إلا أن ترفع قضيةً تلتمس فيها العذر لنفسها أمام محاكم السماء، وأنت تعرف كم هي طويلة  حبال المحاكم!، أو أن تعمل جاسوسةً لحساب إر-لانغ، فتساعده في إثبات تهمة الفساد على «ليم تيان-تشينغ»، وعندها، لن تعود روحها إلى جسدها فقط، بل سيعجز «ليم تيان-تشينغ» عن الوصول إليها ثانيةً عملًا بحكم المحكمة، وليس هذا فقط، بل سيحصل إر-لانغ على ترقية، وسيكون لها «واسطة» في العالم الآخر!

وإذا شعرت أنّك انتقلت فجأةً من عوالم الأساطير الصينية إلى عوالم مكتب «مدام سامية في الدور التاسع» و«فوت علينا بكرة»، فأنت لم تبتعد كثيرًا عن كبد الحقيقة، ولا حتى طحالها! فجوّ البيروقراطيّة الصارمة المميز للتراث الصينيّ ينعكس بدقّة كبيرة في تصوراتهم للعالم الآخر. لقد فاتنا جزء من المحادثة بينما كنّا نسترسل في حوارنا الجانبيّ! لنعد إلى لي-لان وإر-لانغ بسرعة لنسمع ما يقولان:

❞= وكيف سأراقب ليم تيان-تشينغ؟ أتريدني أن أذهب إلى بيته؟

– ليست فكرةً سيئة، فهو لن يتوقع هذا. لكنني لا أعني بيته الموجود هنا.

= هل تعني بيته الموجود في سهول الموتى؟ ولماذا لا تذهب أنت؟

– لأنني لا أستطيع. إن سهول الموتى مخصصة للأرواح البشرية فقط، مكان بمثابة انعكاس للعالم الحقيقي تعبر الأرواح من خلاله إلى عالم الموت، كي لا يصدمها الانتقال من الحياة إلى الموت مباشرةً.

= إن كان هذا سيساعدني في قضيتي فسوف أذهب، لكن هل يمكنك أن تعطيني حصانًا أو نقود عالم الأرواح أو ما شابه؟

– هذه أغراض بشرية لا أملكها، لكنني سأعطيك ما هو أفضل! ❝

قال هذا وأعطاها حرشفًا من حراشف حيوان ما، كان حرشفًا ضخمًا ملونًا لامعًا. وأخبرها أنّها تستطيع استدعاءه في أيّ وقت باستخدام ذلك الحرشف، وأنّه سوف يأتي لنجدتها ما دامت خارج سهول الموتى. انطلقت لي-لان في رحلتها العجيبة إلى سهول الموتى، التي كانت تحتوي على نسخة من كلّ شيء في العالم الحقيقيّ، ووصلت أخيرًا إلى قصر عائلة ليم. أراك متعجبًا من الأشجار التي تبدو متطابقةً تمامًا، والخدم الذين يتحركون بشكل ميكانيكيّ غريب، كالتي رأتها لي-لان في كوابيسها من قبل. وهذا، يا صديقي، لأنّها ليست طبيعية، بل هي النماذج الورقية التي يحرقها الأحياء لأرواح ذويهم أو يدفنونها معهم ليستخدموها في العالم الآخر. على أيّ حال، تخوض لي-لان مغامرات مثيرةً، تكتشف من خلالها -مصادفةً- سرّ وفاة والدتها وانهيار أسرتها، وتنجح في اكتشاف أصل مؤامرة الفساد، وعندما يكتشف أمرها وتكاد المهمة تفشل تمامًا، ينجح إر-لانغ -بصعوبة بالغة- في دخول سهول الموتى بشكل مؤقت وهيئة شبحية غير مستقرة كي يساعدها قدر المستطاع. كانت المؤامرات التي حاكها أعداؤها للإيقاع بها تلتف حولها كخيوط العنكبوت، بينما كانت شباك من نوع مختلف تمامًا تنسج حول قلب محققنا الشاب إر-لانغ. على أي حال، تنجح لي-لان في الحصول على دليل قاطع ضد المتآمرين الفاسدين، وعندما تكاد محاولاتهم لقتلها تنجح، يستجمع إر-لانغ كلّ قواه ليصدّهم عنها لتفرّ، وقبيل خروجها من ذلك العالم المروّع، تلمح إر-لانغ في هيئته الحقيقية وهو يقاتل في معركة غير متكافئة. إنه ليس شبحًا، وليس حارسًا برأس ثور، إنّه تنين! إر-لانغ تنين!

لندع لي-لان تستوعب الأمر وتلتقط أنفاسها قليلًا بينما نتوقف لنناقش دلالة ذلك. فالتنّين في الثقافة الصينية يختلف تمامًا عن نظيره الأوروبيّ العنيف المجنّح الذي ينفث النار ويروّع الناس. فالتنّين في الثقافة الصينية يمثّل النبل والقوة والرخاء والحظّ الحسن. ولذلك كان يقتصر استخدام رمز التنّين على الإمبراطور والأمراء، وكان غاية ما يتمناه الأبّ أن ينمو ابنه ليصبح «تنينًا»، بالمعنى المجازيّ بالطبع، وإلا لكانت كارثة. والتنين الصينيّ يجيد تبديل هيئته، ويتحكم في الأمطار والسيول والأعاصير، أي أنّ تخصصه هو الماء وليس النار.

لنعد إلى لي-لان التي وجدت أنّ مشكلةً عجيبةً لم تخطر لها ببال حالت بين عودتها إلى جسدها حتّى بعد نجاحها في مهمتها. ولمّا كانت كلّ هذه المغامرات قد أنهكتها واستهلكت الكثير من طاقتها الروحية، أو التشي كما يقولون، فكان هذا يعني أنّها قد تموت فعليًا إذا لم تتصرف بسرعة. وخلال الأحداث الباقية، ترصد لي-لان أثر رحلتها في عالم الأموات على شخصيتها ونظرتها إلى العالم والحياة، كما تكتشف أيضًا جوانب جديدةً من تنيننا العزيز إر-لانغ، والمزيد من أسرار عائلة ليم. 

غلاف الرواية

«عروس الشبح» هو أول عمل تنشره الكاتبة «يانغشي تشو»، وقد حققت  نجاحًا كبيرًا وحصلت على عدد من الجوائز الأدبية الصغيرة. والكاتبة من الجيل الرابع لعائلة صينية في ماليزيا، ولذلك اختارت ماليزيا القرن التاسع عشر مسرحًا لروايتيها.

الكاتبة يانغشي-تشو

وأسلوب القصة بسيط مباشر غير متكلّف، فيصعب أن تجد صورةً بلاغيةً معقدةً أو غير مألوفة، أو تشبيهًا في غير موضعه، وهو أسلوب يناسب لي-لان كثيرًا، لأنّها الراوية الأساسية للقصة التي نختبر الأحداث كلّها من وجهة نظرها. وللكاتبة لمسة مميزة محببة جدًا في اختيار الكلمات وتركيب الجمل، كما نجحت في مهمة صعبة للغاية، فقدمت تفاصيل الخلفية الثقافية والتاريخية لقارئ اللغة الإنكليزية تدريجيًّا من خلال الأحداث بسلاسة بالغة، ووزعتها بشكل مناسب، بحيث لا يشعر القارئ أنّه يغرق في تفاصيل مملة، أو أنّ شرح السياق -اللازم لفهم الأحداث- قد قطع اندماجه مع الأحداث الدرامية. وإن أدى ذلك إلى بعض السقطات، كأن نجد أنّ لي-لان كثيرًا ما تصل في الوقت المناسب تمامًا كي تسمع شخصًا ما يقول المعلومة التي تحتاجها الآن بالذات، أو تجد ما تبحث عنه بمصادفة عجيبة، إلخ. 

كما أنّ الكاتبة أجادت رسم الشخصيّات، فكان لكلّ شخصية أسلوب مميز ونمط سلوكيّ متفرد، وهي شخصيات ديناميكيّة، فلم تكن لي-لان الشخصية الوحيدة التي تطورت ونضجت مع تطور الأحداث، بل لمست أثر ذلك في كلّ الشخصيات الأساسية. وهو ما جعل الرواية تبدو مؤثرةً صادقة. وقد وجدت تجربة الاستماع إلى نسخة الكتاب الصوتيّ بصوت الكاتبة تجربةً فائقة الإمتاع، ولا تزال قصّة ما قبل النوم المفضلة لديّ، أستمع إليها حتى أغيب في عوالم ما بعد النوم.

أثارت الرواية ردود فعل إيجابيةً في المجمل. وكانت بعض الانتقادات التي وجّهت إليها هي «بطء أحداث الرواية وقلتها، وبساطة الحبكة»، وهو أمر لم أفهمه في وقتها، لأنني رأيت الحبكة لا تحتمل أيّ زيادة لا في السرعة ولا في الأحداث! فتاة يهددها شبح فتخرج من جسدها وتجوب عوالم ما بعد الموت وتعود لتجد مصيبة أخرى في انتظارها فتجاهد لحلّها، وتكشف بعض المؤامرات مع تنين خلال ذلك. ماذا يجب أن تفعل أكثر من ذلك؟ تغزو الفضاء؟ تفني العالم؟ تسيطر على حجرة مليئة بالأطفال دون سنّ الخامسة؟ الانتقاد الثاني كان أنّ البطلة ليست ثوريةً بما فيه الكفاية، وهو أمر لم أفهمه حينها أيضًا، أولًا: لماذا يجب أن تكون البطلة ثوريةً أصلًا؟ ما علاقة ذلك بجودة حبكة الرواية أو رداءتها؟ وثانيًا، صورت الكاتبة لي-لان كفتاة تختلف عن الشائع في فتيات عصرها، تجيد القراءة وتحلل ما حولها وتنقده، وتتحلى بشجاعة كبيرة وقلب نبيل، وهو ما يناسب صورة الـ«فتاة الثورية» بما يتناسب مع الخلفية الزمانية والمكانية للقصة. لكنّ بعض الانتقادات الأخرى كانت معقولةً جدًا، يتعلق بعضها بسذاجة بعض أجزاء الحبكة، أو يتعلق بالنهاية وبعض التفاصيل الأخرى التي أحببت ألّا أذكرها هنا كيلا «أحرق» القصة.

على أيّ حال، أدخلت الكاتبة بعض التعديلات في روايتها الثانية «نمر الليل»، وقد كتبت بنفس الأسلوب البسيط الرائع في أجواء ساحرة كالعادة، وهي مثيرة لا يكاد القارئ يصبر حتى يصل إلى النهاية. لكنّني -كشخص قديم الطراز- وجدت الحبكة معقدةً للغاية، سريعة الوتيرة، غامضة، فيها ضعف عدد شخصيات «عروس الشبح» على الأقل، مع بطلة ثورية، وبعض المشاهد الخارجة هنا وهناك! شعرت بالكثير من الافتعال في الأحداث، ولم أستطع أن أتعاطف مع الشخصيات. ولم أجد ما يدفعني إلى التفكير بعدما أنهيت القصة، ولا شعرت برغبة في إعادة قراءتها كعادتي. ورغم أنني أحبطت من انتقال الكاتبة من الرواية القائمة على عملية نضج الشخصية بعد تفاعلها مع العالم من حولها إلى الرواية القائمة على الأحداث الخارجية المثيرة التي تنتهي بمجرد أن يعرف القارئ السرّ الذي أخفاه الكاتب عنه ببراعة، حققت الرواية الثانية للكاتبة نجاحًا أكبر من الأولى. على أيّ حال، رغم سذاجة بعض أجزاء القصة، لا تزال رحلة لي-لان من أمتع القصص التي قرأتها على الإطلاق، وأرجو أن تكون رواية يانغشي تشو التالية مفاجأةً سارة!

  • لا توجد ترجمة عربية للقصةِ حتى الآن (حسب علمي)، وهي متوفرة إلكترونيًا على Google Play Books، وScribd، وAudible، وغيرها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *