ميغيل دي سيرڤانتِس، 1605
تحذير: هذا المقال يحتوي على معلومات مفصلة عن القصة ونهايتها
فارسٌ مغوارٌ يمتطي حصانه ليواجه طواحين الهواء، مشهدٌ أيقونيٌّ عابرٌ للثقافات أبدعه خيال الأديب الإسبانيّ «ميغيل دي سيرڤانتِس» في روايته «دون كيخوتي» قبل أكثر من 400 عام، وهي روايةٌ غير عادية تحكي عن حياة رجل غير عاديّ.
ها هو بطلنا، النبيل «كيخانا»، مستغرقٌ كعادته في قراءة إحدى قصص الفروسية التي كرّس حياته لقراءتها، وبلغ به الهوس بها أن باع بعض أجود أراضيه ليشتري المزيد منها. أدمن “كيخانا» قصص الفرسان الشّجعان الذين يجوبون الأرض بحثًا عن المغامرات، ويقضون أيامهم في مواجهة التنانين والعمالقة والسحرة، ويمضون لياليهم في التفكير في محبوباتهم القاسيات وسط حبكات درامية غير معقولة، في جوّ شبيه جدًّا بقصص المكتبة الخضراء التي كنا نقرأها في صغرنا. ومع مرور الوقت، اعتاد كلّ هذه الـ«أڤورة»، ففسد ذوقه، وأصبح يجد بلاغةً غير عادية في عبارات قصصه الرديئة، مثل: «إنّ علة علة العقل التي أصابت عقلي أضعفت عقلي حتى شكوت -لعلة- من جمالك»، فكان يقضي الليالي الطويلة يحاول فهمها واستخلاص عظيم المعاني منها، رغم أنّ «أرسطو نفسه لم يكن ليفهم معناها لو بعث من جديد لهذا الغرض وحده» كما يخبرنا الكاتب، الذي يخبرنا أيضًا:
❞اندمج كيخانا في كتبه تمامًا، فكان يقضي الليلة من الغروب إلى الشروق، وأيامه من الفجر إلى الغسق منكبًّا على قراءتها، ومع قلة نومه وكثرة قراءته، جفّ دماغه تمامًا، حتى أصابه الجنون ❝
وهكذا، اختلط عليه الأمر فظنّ أنّ الحكايات الخيالية العجيبة التي ترويها قصص الفروسية إنّما هي حقيقةٌ واقعةٌ، وليست محض خيال! ولمّا كان عقل صاحبنا قد طار تمامًا، فقد خطرت له فكرةٌ عبقريةٌ -من وجهة نظره طبعًا-، وهي أن يصبح فارسًا جوّالًا ليعيش بنفسه تلك المغامرات النبيلة. سوف يحتاج الأمر إلى عدة استعدادات أولًا، لنعدّ معه إذن قائمةً بالأشياء التي يجب أن يفعلها أولًا كي يصبح فارسًا جوالًا بما لا يخالف قوانين الفروسية التي استنبطها من قصصه.
أوّل بند في قائمتنا هو البذلة المدرعة، ليس من السهل الحصول على بذلة مدرعة هذه الأيام، لكنّ عائلته كانت تمتلك واحدةً صدئةً توارثتها الأجيال، فنظفها ورممها بالورق المقوى. لا بأس إذن، لننتقل إلى البند التالي. لا بدّ للفارس من اسم رنّان، ويفضّل أن يبدأ بـ«دون»، ما رأيك بدون كيخوتي؟ يبدو مناسبًا، لكنّ الفرسان يلحقون اسم بلدتهم بأسمائهم، فلو خرج فارسٌ جوالٌ من مصر مثلًا، فلا بدّ أن يكون اسمه -طبقًا لقوانين قصص الفروسية- «دون حمادة من الطالبية»، أو «دون صبري من جاردن سيتي» إلخ.. وبما أنّه من بلدة «لا-مانتشا»، فهو إذن «دون كيخوتي من لا-مانتشا»! انتهى هذا البند، التالي… لا بدّ من محبوبة، فالفارس الجوال بلا محبوبة قاسية يخوض مغامراته لإعلاء اسمها كالشجرة بلا أغصان، كما علمته قصصه. مشكلة… لا، ليست مشكلة! هل تتذكر تلك الفلاحة الحسناء من قرية «تابوسو» المجاورة التي أعجب بها سرًّا في شبابه؟ لقد تذكرها هو أيضًا، لكنّ جنونه جعله يتذكرها كأجمل أميرات الأرض، واستبدل باسمها السوقيّ اسمًا رنّانًا.. إنّها الليدي «دلسينيا من تابوسو»! التالي! آه، الفرس! لا بدّ لكلّ فارس من حصان قويّ كالفيل سريع كالفهد. أراك ممتعضًا من حصانه الهزيل العجوز، لكنّ عقله صوره له فرسًا أقوى من حصان الإسكندر الأكبر ذاته! لنعدّ بعض الزاد والماء ونتبعه بسرعة، فإنّه يستعدّ للانطلاق في أولى مغامراته.
لكنّ البند التالي على قائمة الشروط قد يتعبنا قليلًا، يجب أن يتمّ ترسيمه كفارس أولًا، فلم يسبق أن رسّم أيّ فارس من فرسان قصصه نفسه من قبل! هذا خرقٌ عنيفٌ للشروط. ولحلّ هذه المعضلة، هداه جنونه إلى أن يطلب من أول فارس يقابله أن يرسّمه، ويبدو أنّه لن ينتظر كثيرًا، فذلك النزل الحقير الذي ينوي أن يقضي فيه ليلته يبدو لعينيه الموهومتين قلعةً حصينة. لقد وجد ضالته إذن: فلكلّ قلعة فارس! ولا تسل عن الهرج الذي أحدثه ظهور رجل يرتدي زيّ فارس من العصور الوسطى، ويتحدث بكلمات فخمة مسجوعة في نزل كهذا! لكنّ صاحب النزل كان رجلًا يقدّر الطرفة فجاراه وتظاهر أنّه فارسٌ متقاعدٌ، فجثا دون كيخوتي أمامه قائلًا:
❞من هذا الموضع مطلقًا لا أقوم، أيها الفارس الشجاع المروم، حتى يتفضل عليّ نبلك فيضمن لي تلك الهبة التي أتمنى، وهي هبةٌ ستعود عليك بالثناء، وعلى سائر الجنس البشريّ بالمنافع والرخاء…❝
لم يجد صاحب النزل بدًّا من الموافقة على ترسيم دون كيخوتي فارسًا، فقد كاد يقضي على النزلاء -الذين تصورهم أعداءً- ليثبت جدارته بالفروسية، فأسرع صاحب النزل يقرأ من الدفتر الذي يسجل فيه كميات الشعير التي يعيرها لأصحاب البغال بصوت منغم، وكأنّه يقرأ الكلمات السرية المقدسة التي يرسّم بها فارسٌ مخضرمٌ خليفته في الملاعب، ثم صفعه على قفاه، وأعلنه فارسًا، وصرفه من النزل!
تعال فلنراجع قائمتنا، هل استوفى دون كيخوتي كلّ الشروط؟ بقي شيءٌ واحد. لا بدّ للفارس من تابع يحمل السلاح، ويفضّل أن يكون أحمق. ومن أنسب من جاره الفلاح «سانشو بانزا» لهذا الدور؟ أدرك سانشو بانزا أنّ دماغ دون كيخوتي لا يعمل كما ينبغي له، لكنّه وافق على أن يترك أسرته وأن يتبعه في مغامراته دون تردد، وذلك لأنّ دون كيخوتي وعده بأن ينصّبه حاكمًا على أول جزيرة تقع تحت يده، وأنّه إذا لم يجد جزيرة، فسوف يوليه إمارة الدنمارك أو أيّ مملكة أخرى من الممالك الكثيرة التي ستخضع له دون شك. ولا تكمن الكارثة في يقين دون كيخوتي من انتصاراته المنتظرة، بل في أنّ سانشو بانزا صدقه!
وبعد أن تيقن فارسنا من أنّه استوفى جميع الشروط المطلوبة، انطلق مع تابعه على الفور ليبحث عن مغامرة. وذات يوم، أبصرا بضعًا وثلاثين طاحونة هوائية من بعيد. وفوجئ سانشو بسيده يقول بلهجته المسرحية المعتادة:
❞«انظر، يا صديقي سانشو بانزا، كيف يقف أكثر من ثلاثين ماردًا عملاقًا وحشيًّا هناك! لأقاتلنّهم جميعًا ولأذبحنّهم! ومن غنائم المعركة سنبدأ تكوين ثروتنا!»
سأل سانشو: «أيّ عمالقة؟»، فأجابه دون كيخوتي: «هؤلاء الذين يقفون هناك، ويصل طول أذرع بعضهم إلى قرابة فرسخين!»
قال سانشو: «اسمعني، يا سنيور، إنّهم ليسوا عمالقة، بل طواحين هواء! وما يبدو لك أذرعًا هو أجنحتها التي تدور فتدير حجر الطاحونة!» ❝
لكنّ دون كيخوتي لم يصغ لهذا الكلام الفارغ، وانطلق فورًا بأقصى سرعة يستطيعها حصانه الكسيح نحو الطواحين وهو يقول:
❞لا تهربوا أيها الجبناء الأشرار! فإنّما يهاجمكم فارسٌ واحد! ❝
ثم راح يوجه صرخات قلبه الملتاع إلى محبوبته دلسينيا من تابوسو في اللحظات المتبقية قبل المواجهة! وما إن أدخل رمحه بين شفرات أول طاحونة هوائية حتى تحركت الشفرات ودارت كالمروحة، فكسرت الرمح، وسقط هو وحصانه على الأرض سقطةً شديدةً من قوة الدفعة. قال له سانشو:
❞قال سانشو: «ألم أخبرك أنّها طواحين هواء يا سيدي؟»
قال دون كيخوتي: «صه، يا صديقي سانشو! لا بدّ أنّها أفاعيل الساحر فريستون الحقود، لقد حوّل هؤلاء العمالقة إلى طواحين هواء كي يحرمني من مجد الانتصار عليها، لكنّ فنونه الخبيثة لن تصمد أمام سيفي الخيّر» ❝
بعد ليلة واحدة، رأى الرفيقان راهبين على بغلين، وخلفهما قافلةٌ تحيط بعربة مقفلة يجرّها حصان، ويبدو أنّ سيدةً ما كانت داخل العربة. هذا هو ما نراه نحن وسانشو طبعًا، لكنّ دون كيخوتي أدرك المشهد بشكل مختلف تمامًا! لنسمع ما يقوله لسانشو!
❞ قال دون كيخوتي: «إن لم أكن مخطئًا، فسوف تكون هذه أشهر مغامرة على الإطلاق، فهؤلاء المتسربلون بالسواد هناك هم سحرةٌ بلا أيّ شك، وهم يصطحبون أميرةً مخطوفةً في هذه العربة المقفلة، ولأصححنّ هذا الظلم بكلّ ما أوتيت من قوة!»
قال سانشو: «سيكون هذا أسوأ من طواحين الهواء! اسمعني، سنيور، هذان راهبان، وخلفهما قافلة مسافرين عادية!» ❝
لكنّ دون كيخوتي لا يبقى ليسمع هذا الكلام الفارغ، بل ينطلق من فوره إلى القافلة فيقطع طريقها ويقف شامخًا ببذلته المدرعة المرممة بالورق المقوى، ويصيح بلهجته المسرحية الفصيحة:
❞أيتها الكائنات الشيطانية! أطلقوا سراح الأميرات النبيلات اللاتي سبيتموهنّ ووضعتموهن عنوةً في هذه العربة المقفلة! أطلقوا سراحهنّ فورًا! وإلا فأعدوا أنفسكم لموت سريع جزاءً وفاقًا لأفعالكم الخبيثة! ❝
ارتسم تعبير «يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم!» على وجه الراهبين، وحاولا أن يشرحا له في صبر أنهما ليسا من العفاريت، لكنّ دون كيخوتي لم يكن ينتظر شرحًا. الشكّ في صحة أفكارك ومراجعتها ونقدها هي رفاهيةٌ تملكها فقط إذا كان عقلك لا يزال في رأسك، أما عقل دون كيخوتي، فكان هناك في رحاب ما بعد اللا نهائية، مع العزيز باز-يطير وكلّ هؤلاء العقلاء. ولذلك اعتبر كلام الراهبين إعلانًا مباشرًا للحرب، فاستلّ سيفه وهاجمهما على الفور، وكانت النتيجة هي أنّه أوسع ضربًا لم يذقه حمارٌ في مطلع -كما يقال-، وهي النتيجة المشتركة لكلّ مغامراته.
رغم أنّ جنون دون كيخوتي لم يعم عينيه عن حماقة سانشو، كانت صحبة الأخير تخفف عنه الكثير من المصاعب، فلم تكن جعبته تنفد أبدًا من الأمثال الشعبية العجيبة، والقصص غير المألوفة التي يميزها أحيانًا الـ«ألش» الصريح. ويبدو أنّه يحكي لسيده قصةً الآن! تعال ننضم إليهما بسرعة لنسمعها:
❞قال سانشو: «في قرية إستريمادورا، عاش راع للماعز -أي أنّه كان يرعى الماعز-، وكان اسمه رويز، وكان رويز يحبّ راعية غنم اسمها تورّالڤا، وكانت راعية الغنم تورّالڤا ابنة رجل ثري، وكان الرجل الثري..»
قاطعه دون كيخوتي قائلًا: «إذا كانت هذه هي طريقتك في حكاية القصص يا سانشو فلن تنتهي ولو بعد يومين! احكها مباشرةً كالعقلاء أو اصمت ولا تكملها!» ❝
وبعد بعض المناوشات على هذه الشاكلة، عاد سانشو للحكاية:
❞قال سانشو: «لكنّ تورّالڤا أثارت غيرته بشكل تجاوز كلّ الحدود، فكرهها، وقرر أن يترك البلدة كلّها ويغادر إلى مكان لا يراها فيه ثانية. وعندما علمت تورّالڤا بذلك وقعت في حبّه على الفور، رغم أنّها لم تكن تحبّه قبل ذلك..»
قال دون كيخوتي: «هذه هي طبيعة النساء: أن ينصرفن عمّن يحبهن، ويحببن من ينصرف عنهن. تابع قصتك يا سانشو…»
قال سانشو: «قاد الراعي قطيعه المكون من 300 عنزة ليعبر البحر إلى البرتغال، وعزمت هي على اللحاق به قبل أن يرحل، ولمّا بلغه ذلك أسرع كيلا تلحق به، لكنّه لم يجد من ينقله إلى الضفّة المقابلة سوى صياد بقارب صغير، وافق الصياد على مساعدته، لكنّ المشكلة كانت أنّ القارب كان صغيرًا جدًّا لا يسع سوى شخص واحد وعنزة واحدة في المرة. فركب الصياد قاربه وأخذ نعجةً واحدةً وعبر بها إلى الجانب الآخر، ثم عاد وأخذ نعجةً أخرى إلى الجانب الآخر، ثم عاد وأخذ واحدةً أخرى إلى الجانب الآخر، تابع عدّ العنزات المنقولة، فلو فاتتك واحدةً لانتهت القصة! لنتابع، عاد الصياد ليأخذ عنزةً أخرى ونقلها إلى الجانب الآخر، ثم عاد ليأخذ أخرى، ثم أخرى..»
قال دون كيخوتي: «حسنًا حسنًا سنفترض أنّه نقلها كلّها»
قال سانشو: «كم عنزةً عبرت حتى الآن؟»
قال دون كيخوتي: «وكيف لي أن أعرف أيّها الأحمق؟!!»
قال سانشو: «لقد أخبرتك أن تعدّها جيدًا! وإلا فقد انتهت القصة وقضي الأمر ولا سبيل إلى إتمامها. فالقصة تنتهي عندما يبدأ الخطأ في عدّ العنزات التي عبرت! لقد حذرتك!»
قال دون كيخوتي: «بربك يا سانشو! إنّك لتحكي القصص بطريقة لم يسبقك أحدٌ إليها من قبل!» ❝
كما كان سانشو يساعده على التعافي من إصاباته الكثيرة، ها هو يحاول مداواة سيده بمعجون أوراق الروزماري بالملح بعد مشاجرته الأخيرة مع السجناء الذين حررهم. أراك متعجبًا لأنهم يضربونه رغم أنّه حررهم، وهذا لأنّه أصرّ على أن يقروا جميعًا بأنّ محبوبته دلسينيا من تابوسو هي أجمل نساء المجرة، وأن يذهبوا بأنفسهم إليها ليحكوا لها عن شجاعته وحبّه الشديد لها … إلخ، وقد عرضوا عليه المال بدلًا من ذلك، لكنه اعتبر ذلك نكرانًا للجميل وإعلانًا للحرب كالعادة. كانت أغلب المشكلات تبدأ عندما يجرؤ أيّ شخص على التشكيك في أنّ دلسينيا هي سيدة بنات جنسها. لكن ما أصل ذلك الحبّ العنيف الذي يربط بين دون كيخوتي ودلسينيا؟ تعال لنسمع الإجابة مع سانشو بانزا، الذي قال له سيده:
❞لم تر دلسينيا خطّ يدي من قبل، وهي لا تستطيع القراءة على أيّ حال. فالحب بيننا كان دائمًا أفلاطونيًّا لا يتخطى حدود النظرات البريئة النادرة، حتى أنني أقسم لك أنني لم أرها سوى أربع مرّات خلال الاثنتي عشرة سنة التي ظللت أحبّها فيها أكثر من نور عينيّ هاتين، وحتى في هذه المرّات الأربع، لم تلاحظ هي أنني كنت أنظر إليها أصلًا! ❝
كان دون كيخوتي كلما وجد أنّ الآخرين لا يرون ما يراه، ألقى باللوم على السحرة الحقودين الذين يسحرون أعين الناس ليسببوا له المشاكل. كانت هذه حيلةً دفاعيةً يفسر بها المتناقضات حوله دون أن يكسر الصورة الخيالية التي رسمها عقله للعالم. وذات مرة، طلب دون كيخوتي من تابعه أن يحمل رسالةً إلى محبوبته دلسينيا، وصف فيها حبّه ومغامراته، لكنّ سانشو بانزا كان يعرف دلسينيا الحقيقية، وكانت فلاحةً غليظة الطبع، وأدرك أنّه لو نقل رسالة سيده بكلّ ما تحويه من جنون إليها فسوف «يزفّ» في القرية، فأقنع سيده كذبًا أنّه أدّى مهمته. لكن عندما طلب دون كيخوتي من سانشو أن يقوده إليها كي يراها بنفسه، أسقط في يد الأخير. وقرر أن يلعب ورقة الساحر الحقود، وأن يدعي أنّ الساحر المزعوم قد سحر عيني دون كيخوتي كي يحرمه لذة رؤية دلسينيا. وهو ما يبدأُ سلسلةً أخرى من المغامراتِ العجيبةِ التي يُحاولُ فيها دون كيخوتي أن يتخلَّصَ فيها منْ سحرِ الساحرِ الشرير.
ذاع صيت فارسنا وتابعه، وجاراهما بعض الأثرياء في أوهامهما، فأقنعوا سانشو بانزا أنه أصبح حاكمًا بالفعل، وقد أدهش الجميع بما أظهره من عدل وحكمة، فأبقوا بعض القوانين التي سنّها حتى بعد انتهاء النكتة وتخلّي سانشو عن منصبه، وهو أمرٌ لم يحزنه كما قد تظنّ، فلقد وجد الحياة كحاكم مسؤول عن قرية بأكملها أمرًا يعذب المرء ويحرمه النوم، وقنع أنّ أسعد أيامه هي تلك التي يقضيها كتابع أحمق في خدمة سيده الحبيب دون كيخوتي.
لكنّ دون كيخوتي كان على موعد مع أول هزيمة له كفارس جوّال، فلقد انتصر عليه فارسٌ آخر ادّعى أنّ حبيبته أجمل من دلسينيا من تابوسو، وكان على دون كيخوتي أن يطيع المنتصر -كما تقضي قوانين الفروسية- وأن يعود إلى منزله ويعتزل حياة الفروسية لمدة عام كامل. ولم يكن هذا الفارس المزعوم سوى أحد أصدقائه القدامى متنكرًا، وقد رأى أنّها الطريقة الوحيدة لإجبار دون كيخوتي على البقاء سالمًا في منزله، لعلّه يستعيد عقله.
يعود فارسنا إلى منزله في حالة من الاكتئاب الشديد، وتفشل جميع محاولات أصدقائه في التخفيف عنه. ثم تصيبه حمى شديدةٌ، يفيق منها وقد استعاد عقله أخيرًا. لكن لا يتسنّى لأصدقائه الاحتفال بتعافيه واسترداده لعقله، إذ يتضح لهم أنّه على مشارف الموت. قضى دون كيخوتي أيامه الأخيرة يحاول تصحيح المشكلات التي سبّبها جنونه قدر إمكانه، وقد آلمه كثيرًا أنّه انخرط في كلّ تلك الحماقات، وحرص على أن يوزع تركته بما يكفل حياةً كريمةً لسانشو بانزا وابنة أخيه وخادمته، وأن يفعل كلّ ما في وسعه كيلا يتذكره الناس كرجل مجنون. تأثر كلّ من عرفوه بخبر وفاته تأثرًا شديدًا، لأنّه كان رجلًا خلوقًا طيبًا نبيلًا في جنونه وفي عقله.
حققت رواية «دون كيخوتي» نجاحًا ساحقًا فور نشرها، وقد ألفها الكاتب في لحظة «خنقة» حقيقية من الاتجاه الأدبيّ السائد في إسبانيا في عصره، حيث رأى أنّ انتشار قصص الفروسية الخيالية الرديئة أفسد عقول الناس وأذواقهم، وقرر أن يستعرض سطحية هذه القصص وسخافتها من خلال قصة رجل محترم يجنّ بسببها.
«دون كيخوتي» روايةٌ طويلةٌ تبلغ نحو ألف صفحة، وقد اختار الكاتب أن يرويها بأسلوب قصة-داخل-قصة، فهو لا يروي القصة مباشرةً، ولا يرويها على لسان إحدى الشخصيات كالعادة، بل يرويها على لسان رجل يقرأ ترجمةً لمخطوطة كتبها مؤرخٌ عربيٌّ -خياليٌّ بالطبع- اسمه «سيدي حميدي»، وهو ما يضفي متعةً إضافيةً على القصة، إذ تشعر أنّك تقرأ تحقيقًا تاريخيًّا وليس مجرد رواية.
وتظهر ثقافة الكاتب الواسعة في المناقشات فائقة الإمتاع التي تدور بين أبطاله حول موضوعات مختلفة مثل الترجمة، والمفاضلة بين العلماء والعسكريين، ومرتبة الأدب بين العلوم، وصفات الحاكم الناجح، وأثر اللغة العربية على اللغة الإسبانية، وغيرها. كما تظهر كراهية الكاتب الواضحة للعرب وبقايا الأندلس في إسبانيا في أكثر من موضع.
لم تتعافَ شعبية قصص الفروسية الخيالية قطّ بعد نشر «دون كيخوتي»، لكنّ هذا ليس السبب الوحيد في المكانة العالية التي أحرزتها الرواية، التي اعتبرت أحد أهمّ الأعمال في تاريخ الأدب، وأولّ رواية حديثة في تاريخ الأدب الغربي. فخلافًا للروايات السائدة في عصرها، لم تركز “دون كيخوتي” على المبالغة في الأحداث الدرامية أو المغامرات المثيرة، بل كان تركيزها الأساسيّ على الصراع الداخليّ للبطل، وتطور شخصيته مع مرور الوقت. كما أثرت تيمة البطل المثاليّ الحالم والتابع الواقعيّ الأحمق، والصداقة القوية التي تربط بينهما مع مرور الوقت رغم تناقض الشخصيتين؛ على الأعمال الأدبية بعد ذلك.
كما أنّها لم تعرض بطلًا قويًّا كاملًا يتمنى الجميع أن يكونوا مثله، بل كان البطل رجلًا مجنونًا مثيرًا للشفقة، ينظر للطاحونة فيحسبها ماردًا، وإلى صحن الحلاقة العاديّ فيظنّه خوذةً مسحورة. وهو رغم ذلك ليس شخصيةً بسيطةً مثل البطل السوبرمان، بل شخصيةً مركبةً معقدة، فهو رجلٌ مجنونٌ، لكنّه مثقفٌ أمينٌ شجاعٌ وعلى قدر عال من الأدب حتى في جنونه، وهو يتحمل الكثير من المصاعب والتضحيات في محاولاته المستميتة ليصبح الفارس المثاليّ الذي ينصر الضعفاء ويردّ المظالم ويحارب الشرّ. ولذلك، فرغم كلّ الحماقات التي أقحم نفسه فيها لا يحتقره القارئ، بل يتعاطف معه، ويتأثر بألمه حين يعود إليه عقله. فقد لا نكون مجانين مثل دون كيخوتي، لكن لا شكّ أنّ الكثير منّا قد جرّب في مرحلة ما من حياته شعور أن يغمض عينيه وأذنيه عما حوله، ليحاول أن يفرض على الواقع رؤيته المثالية للعالم، إلى أن يصل إلى طريق مسدود…
- توجد عدة نسخ مترجمة إلى العربية من القصة تحت عدة أسماء مثل «دون كيشوت» و«دون كيخوته»، وبعض النسخ المترجمة مختصرة. (ملحوظة: نص القصة الإنكليزي متاح ضمن المجال العام مجانًا ولا يخضع لحقوق النشر، أما الترجمة العربية للقصة فليست ضمن المجال العام. احرص على شراء أو استعارة النسخ الأصلية من الكتاب حفظًا لحقوق دار النشر والمترجم).
- يمكن الحصول على نص القصة الأصلي (باللغة الإنكليزية) كاملًا من مشروع غوتنبرغ.
- يوجد عدد من تسجيلات الكتب الصوتية المجانية (باللغة الإنكليزية) على موقع ليبريفوكس.
ثم صفعه على قفاه، وأعلنه فارسًا 😂
😂😂😂