والتر لورد، 1955
هل جلبت معطفك الشتويّ كما اتفقنا؟ ممتاز! فاليوم سوف نغادر عوالم الخيال، وننطلق في مهمةٍ خاصةٍ على متن تايتانيك، مع أشهر كتابٍ كتب عنها. سنحاول أن نفهم من خلاله: لماذا أصبحت ملحمة تايتانيك نقطةً أيقونيةً تفصل بين ما قبلها وما بعدها؟ ماذا يميّزها عن السفن الغارقة الأخرى؟ هل كان هناك مصريٌ على متن تايتانيك حقًّا؟ هيا أعدّ نفسك جيدًا واتبعني، فأمامنا ليلةٌ طويلةٌ.
سوف نعود أولًا إلى عام 1898، هل ترى هذا الكاتب المغمور؟ إنّه «مورغان روبرتسون»، وقد نشر روايةً بعنوان «عبث»، تدور حول باخرةٍ بريطانيةٍ اسمها «تايتان»، تفوق سفن عصرها حجمًا وفخامةً، لكنها تغرق إثر اصطدامها بجبلٍ جليدي وهي تعبر المحيط الأطلنطي في ليلة من ليالي أبريل. هممم، مثير.
الآن نحن في شهر أبريل عام 1912، بعد 14 عامًا من نشر رواية «عبث». ونحن على متن تايتانيك، أكبر البواخر وأفخمها على وجه الأرض في زمانها، في الليلة الخامسة من رحلتها الأولى (والأخيرة)، التي انطلقت من مدينة ساوثهامبتون البريطانية متجهةً إلى نيويورك. لا داعي للتخفي، لن يرانا أو يسمعنا أحد، سنطوف هنا كأشباحٍ آتيةٍ من المستقبل. كم الساعة الآن؟ إنها الحادية عشرة مساءً. هيا نصعد إذن عبر الدرج الكبير الشهير، ونلقي نظرة على كل التفاصيل المبهرة التي تنم عن الفخامة والرفاهية في طريقنا. ها قد وصلنا إلى كابينة الاتصالات اللاسلكية في تايتانيك. هذا الرجل المنهك متعب الأعصاب هو «جاك فيليبس»، فني الاتصالات، وهو على وشك الانهيار؛ لأن ركاب الباخرة المنبهرين بتقنية التلغرافات اللاسلكية الجديدة لم يتوقفوا عن إرسال البرقيات لتحية الأهل والأصدقاء طوال الأربع عشرة ساعة التي عملها اليوم دون راحة. كما أن عمله لم ينته بعد، فلا يزال أمامه أكوامٌ من الرسائل في انتظار الإرسال أو الاستقبال. وما أتعبه أكثر، هو أن التقاط الإشارات اللاسلكية ليس أمرًا سهلًا، لأنها تقنية حديثة كما ذكرنا. وحتى عندما نجح أخيرًا في التقاط الإشارة اللاسلكية، تعطل عمله ثانيةً بسبب الرسالة اللاسلكية التي أرسلتها له باخرةٌ اسمها «كاليفورنيان»، وهي باخرةٌ كانت تبحر في منطقة قريبة من تايتانيك، لكنها اضطرت للتوقف بسبب كثرة الجبال الجليدية، فحاولت تحذير تايتانيك من خطورة الوضع. لكن رسالة التحذير التي أرسلتها السفينة «كاليفورنيان» إلى تايتانيك كانت القشة التي قصمت ظهر فني الاتصالات المنهك، فلم يشكرهم على التحذير أو يمرر التحذير إلى القبطان، بل أرسل إلى سفينة «كاليفورنيان» ردًا يقول فيه: «اصمتوا! اصمتوا! أنا مشغول!».
تعال لأعرفك على قبطان تايتانيك. ها هو الكابتن «سميث»، رجل بحرٍ محنك يعمل قبطانًا منذ قرابة أربعين عامًا، وقد قرر أن يتقاعد فور وصول تايتانيك إلى نيويورك بعد خمسة أيام، أو ربما أربعة أيام، لو تم لـ «بروس إيزماي» -رئيس الشركة المالكة لتايتانيك الذي كان بين الركاب- ما أراد، فهو يريد أن يصل إلى نيويورك يوم الأربعاء بدلًا من الخميس، لتحقق تايتانيك نصرًا جديدًا ينشر في عناوين الصحف. ربما يتمكنون من الوصول يوم الأربعاء بالفعل، فها هي تايتانيك تبحر بسرعةٍ كبيرةٍ تبلغ 22.5 عقدةً (أي 42 كيلومترًا في الساعة تقريبًا).
الساعة الآن 11:35 مساء، أمامنا خمس دقائق فقط، أسرع! يجب أن نواصل الصعود حتى نبلغ كابينة المراقبة العليا. ها هو رجلنا! «فريدريك فليت»، أحد الستة الذين كلفوا بالمراقبة تلك الليلة تحسبًا لظهور أي جبلٍ جليدي. لنقترب منه وننظر بعينيه. إن مهمته ليست سهلة، فالبرد قارس، والظلام دامس. صحيحٌ أن السماء صافيةٌ مرصعةٌ بالنجوم التي تخلب لب الناظر، لكن لا أثر فيها للقمر. ثم انظر إلى مياه المحيط، إنها ساكنةٌ تمامًا، وكأنها لوحٌ مصقولٌ من الزجاج. كل هذا يبدو جميلًا ساحرًا، نعم، لكنه يجعل اكتشاف أي جسمٍ في الماء أمرًا عسيرًا للغاية. لكن ما هذا؟ هل ترى هذا الظل الغريب الذي يبدو أدكن من الظلام الدامس؟ لنضيق أعيننا معه، هل نتخيل؟ لا! إنه حقيقي! إنه يقترب! وكل ثانيةٍ تمر تثبت لنا أنه ليس صغيرًا كما بدا لنا. ها هو «فليت» يهز جرس الإنذار ثلاث مراتٍ، قبل أن يرفع سماعة الهاتف الذي يوصله بكابينة القيادة ويصيح: «جبلٌ جليديٌ أمامنا مباشرة».
37 ثانية. تفصلنا عن اللحظة التي لا مفر منها 37 ثانية فقط لا غير. ترى هل نجحت محاولات تفادي الجبل الجليدي؟ لقد سمع البعض صوت صريرٍ مرتفع، وشعر بعض الركاب بتغير مفاجئ في صوت هدير المحركات المعتاد. أراك متعجبًا من المرح البادي على وجوه هؤلاء الذين خرجوا إلى سطح الباخرة، ليلعبوا بقطع الثلج التي انفصلت عن الجبل الجليدي بعد الاصطدام. لكن تذكر أنهم لا يعرفون تايتانيك التي نعرفها نحن الآن، فإن تايتانيك الراسخة في عقولهم هي باخرةٌ غير قابلةٍ للغرق، وذلك لسببين: أولًا، التأكيد المستمر على أن تايتانيك آمنةٌ تمامًا، غير قابلة للإغراق، فلقد صممها «توماس أندروز»، وهو أفضل الرجال في مجاله، بنظامٍ آمنٍ يمنع الغرق، يتكون من 16 مقصورةً عازلةً للماء في قاع السفينة، فإذا حدث خرقٌ أدى إلى تسرب الماء داخل السفينة، سيبقى الماء منعزلًا داخل المقصورة التي تضررت فقط، ولن يتسرب إلى الخارج، وبذلك تبقى السفينة طافيةٌ على الماء حتى لو تضرر قاعها وتسرب إليه الماء.
كان مما ذكرته صحيفة بلفاست، مثلًا، عن تايتانيك:
❞في حالة وقوع حادث، يستطيع القبطان إقفال أبواب المقصورات كلها لحظيًّا، عن طريق تحريك مفتاح كهربائي بكل بساطة، مما يجعل الباخرة -عمليًّا- غير قابلةٍ للغرق❝
والسبب الثاني هو الثقة العامة في التقدم التقني الذي حققه الإنسان في القرن التاسع عشر، حتى قال الكابتن «سميث» قبطان تايتانيك عام 1906 عن باخرةٍ أخرى:
❞لا أستطيع أن أتخيل أي موقف قد يجعل الباخرة تغرق تمامًا. لا أستطيع أن أتصور حدوث أي كارثة حقيقية لهذه الباخرة. لقد تجاوزت صناعة السفن الحديثة هذا الأمر ❝
ولذلك، لم ير الركاب في قطع الثلج المتناثرة سوى فرصة إضافية للمرح على ظهر الباخرة الأسطورية. لكن لو صحبتني إلى المقصورات العازلة للماء في قاع السفينة لرأيت مشهدًا مختلفًا. فقد بدأ العمال وركاب الدرجة الثالثة -وهم الأقرب إلى القاع وإلى مقدمة الباخرة- في ملاحظة صوت هسيس قوي آتٍ من مكانٍ ما، وماء يتصاعد بسرعة عجيبة في بعض الأماكن.
كان «أندروز»، المسؤول عن تصميم تايتانيك وبنائها، بين الركاب. تعال ننضم إليه في هيئتنا الشبحية تلك وهو يأخذ جولة مع القبطان في محاولة لتقدير مدى الضرر. لا عجب أن وجهه ممتقع، فهو أول من أدرك الكارثة. لقد طاف بالمقصورات العازلة للماء في قاع السفينة، واكتشف أن الماء قد غمر المقصورات الأمامية الخمس تمامًا. وتصميم الباخرة يجعلها تتمكن من الطفو حتى لو غمر الماء مقصورتين أو ثلاثة أو حتى أربعة من المقصورات الأمامية، ولكن مهما فعلت، فلا يمكنك أن تجعلها تطفو وقد غمر الماء المقصورات الخمس الأمامية تمامًا. المشكلة الأخرى هي أن الجدران الفاصلة بين المقصورة الخامسة والمقصورات التي تليها لم تكن مرتفعة بما يكفي. ولذلك فعندما يرتفع مستوى الماء في المقصورة الخامسة حتى يبلغ أعلى نقطة في الجدار الفاصل، سيتسرب الماء من فوق جدار المقصورة الخامسة إلى السادسة، ومن السادسة إلى السابعة، وهكذا دواليك، كالدومينو. وهو ما يعني أنها مسألة وقتٍ لا أكثر، قبل أن يغمر الماء المقصورات الست عشرة كلها، فتعجز السفينة عن الطفو وتغرق تمامًا. لنترك القبطان المصدوم يهضم هذه الحقيقة الرياضية البسيطة بالتدريج، ونسبقه إلى كابينة الاتصالات اللاسلكية.
إنها 12:15 بعد منتصف الليل. وبناءً على أوامر القبطان، أرسلت تايتانيك إشارة CQD، وهي كود الاستغاثة بإشارة مورس. لنسمعه معًا:
ولنعد إلى تايتانيك. إنها 12:45 الآن. لم يرد تايتانيك أي ردٍ مرضي على نداءات الاستغاثة. فجربت استخدام الكود الجديد للاستغاثة: SOS، لتصبح تايتانيك أول من يستخدم كود SOS في التاريخ. لنسمعه معًا:
ما هذا الذي يضيء السماء؟ آه! لقد أطلقت تايتانيك أول صاروخ استغاثة. كما أصدر القبطان أوامره بتجهيز قوارب النجاة فورًا طبقًا لقانون البحر: النساء والأطفال أولًا. وهنا، تبرز صعوبات جديدة. صدم أغلب من على متن السفينة لاكتشافهم أن قوارب النجاة على الباخرة لم تكن تكفي إلا لأقل من نصف الركاب، فلقد قدر المسؤولون أنه لا حاجة لقوارب النجاة على سفينةٍ غير قابلة للغرق على أي حال. ولنفس السبب، لم يخضع أيٌّ من طاقم السفينة أو الركاب لتدريبات الأمان الاحتياطية التي تعلمهم ما يجب فعله في حالة وقوع حادث. ورغم ذلك، بذل طاقم السفينة قصارى جهده لتنظيم عملية إخلاء أكبر قدرٍ ممكن من الركاب بأسرع ما يمكن. لكن مهمتهم كانت بالغة الصعوبة. لم يكن أغلب الركاب قد أدركوا حقيقة الوضع بعد. كانوا يرون أن انتظار النجدة على متن تايتانيك أأمن من ركوب قارب نجاةٍ صغير مفتوح وسط المحيط الغادر. وحتى بعدما ساءت الأمور بشكل لا يدع أي مجالٍ للأماني الكاذبة أو الإنكار، رفضت الكثير من النساء ترك أزواجهن على متن الباخرة، حتى اضطر الأزواج وطاقم السفينة إلى حملهن ودفعهن دفعًا داخل القوارب. كل هذا كان يستغرق الكثير من الوقت الثمين. صدمة، ذعر، فوضى، كابوسٌ حي. المزيد من صواريخ الاستغاثة البيضاء. إن الوقت ينفد. ألا توجد سفينة قريبة لتأتي للنجدة؟
في الواقع، كانت هناك باخرةٌ قريبة. هل تتذكر الباخرة «كاليفورنيان» التي حاولت تحذير تايتانيك من كثرة الجبال الجليدية في المنطقة، قبل أن يوبخها فني الاتصالات في تايتانيك؟ كانت «كاليفورنيان» لا تزال قريبةً إلى الحد الكافي الذي يجعل المراقبين على متنها يشاهدون بأعينهم الصواريخ التي أطلقتها تايتانيك واحدًا تلو الآخر. ولست وحدك من يشعر بالقهر والغيظ إذ يرى كيف اكتفوا بالتعجب من الموقف دون أن يحاول أيٌ منهم فهم ما يحدث، أو أن يفكر في إيقاظ فني الاتصالات ليحاول التواصل مع تايتانيك ويفهم لماذا تطلق الصواريخ بعد منتصف الليل.
أما السفن الأخرى التي تلقت رسالة الاستغاثة من تايتانيك، فلا يبدو أنها أدركت فداحة الكارثة. فعلى سبيل المثال، أرسلت باخرةٌ تدعى «أوليمبيك» ردًا على رسالة الاستغاثة تسأل فيه: «هل تبحرون جنوبًا لملاقاتنا؟».
ظل القبطان يتردد على كابينة الاتصالات، مرةً لينبه رجاله إلى أن الكهرباء شارفت على الانقطاع، ومرةً أخرى ليخطرهم أن الباخرة لم يعد أمامها الكثير قبل أن تغرق كليًا. في الساعة 1:45، أرسلت تايتانيك رسالة الاستغاثة الأخيرة إلى الباخرة «كاربيثيا»، وهي الباخرة الوحيدة التي أجابت نداء تايتانيك وكانت في طريقها إلى النجدة: «تعالوا بأقصى سرعة، لقد غمر الماء غرفة المحركات». في هذه المرحلة، كانت الهيستيريا والذعر قد سيطرا على السفينة بالكامل، وتزاحم الناس على قوارب النجاة القليلة المتبقية حتى اضطر طاقم السفينة إلى تهديد الرجال بالأسلحة، كي يفسحوا المجال للنساء والأطفال. والكارثة الأخرى كانت أن ركاب الدرجة الثالثة الذين ظلوا محبوسين في الأسفل –دون أن يشعر بهم أحدٌ– استطاعوا الخروج أخيرًا. لكن بسبب تأخرهم في الخروج، والهرج والمرج، وحاجز اللغة (إذ كان أغلبهم من المهاجرين)، فاتت على أكثرهم فرصة ركوب قوارب النجاة.
ها هو الكابتن سميث في كابينة الاتصالات للمرة الأخيرة، لنستمع إليه: «يا رجال، لقد أديتم مهمتكم على أكمل وجه. ليس باستطاعتكم أن تفعلوا أكثر من ذلك. اتركوا كابينتكم. لينج كل رجلٍ بنفسه». لينج كل رجلٍ بنفسه.. هذه هي الجملة التي ظل القبطان يرددها على رجاله في مختلف أنحاء السفينة وسط الأجواء الكابوسية التي سادت قبل أن تغرق السفينة تمامًا بربع ساعةٍ لا أكثر. لا بد أنه راح يفكر في قراره بعدم تخفيف سرعة تايتانيك رغم كل علامات الخطر: كالتحذيرات الكثيرة المفصلة التي وردته ذلك اليوم عن الجبال الجليدية، وحرارة ماء المحيط التي انخفضت بشكلٍ مفاجئ حاد، وصعوبة رصد الجبال الجليدية في ليلةٍ كتلك، مع كل هذا الظلام الدامس وسكون الماء التام. أما «أندروز»، مصمم تايتانيك، فإن آخر مرةٍ شوهد فيها كان واقفًا في غرفة التدخين وحده، وقد ألقى سترة النجاة على الطاولة بإهمال، ووقف مشدوهًا غارقًا في أفكاره.
الآن وقد غادر القارب الأخير، خيم هدوءٌ كابوسيٌ على الركاب الألف والخمسمائة الذين بقوا على متن السفينة. هدوءٌ لم يتخلله إلا صوت الموسيقى، فالفرقة الموسيقية الشهيرة، التي لم ينج منها أي شخصٍ للأسف، ظلت إلى اللحظة الأخيرة تعزف ترنيمةً دينية. وقد قال بعض الناجين إنهم كانوا يسارعون إلى الخروج من الكنائس بعد ذلك كلما سمعوا الترنيمة المذكورة، لارتباطها عندهم بهذه اللحظات العصيبة. ها هي تايتانيك تميل بشدة إلى الأمام فتنزل مقدمتها تمامًا تحت الماء، لقد وقفت حتى أصبحت متعامدةً على سطح الماء، ومع ازدياد الضغط على منطقة وسط السفينة انقسمت تايتانيك إلى نصفين (وهو ما يذكر في أجزاء لاحقة من الكتاب) قبل أن يغرق كل نصفٍ بكل ما فيه ومن فيه في تمام الساعة 2:20 بعد منتصف الليل. كان المشهد صادمًا مرعبًا لركاب قوارب النجاة، التي كان في كل منها أماكن شاغرة كثيرة. وقد حاول قاربٌ واحد العودة إلى موقع السفينة وإنقاذ من يمكن إنقاذه. لكنها كانت مهمةً صعبة بسبب الظلام والفوضى وعجز الجسم البشري عن تحمل الماء المتجمد لفترةٍ طويلة، وفي النهاية، انتشلوا أربعة أشخاصٍ فقط.
كما واجهت مشكلةٌ أخرى مجموعةً من الناجين، فلقد نزل قاربهم إلى الماء مقلوبًا، وكان عليهم أن يقفوا على ظهر القارب المقلوب والتحرك باستمرار لإبقائه متوازنًا كيلا ينقلب بهم في الماء. وقد ظلوا على هذه الحال لمدة ساعة وعشر دقائق، إلى أن وصلت الباخرة «كاربيثيا» التي كانت قد أعدت نفسها تمامًا لمهمة إنقاذ الناجين. انتُشِلوا جميعًا من الماء، وبذل طاقم السفينة وركابها كل ما بوسعهم للتخفيف عن هؤلاء الذين مروا بتلك الليلة العصيبة.
أما على اليابسة، ظلّ الجميع -ومن بينهم مسؤولو شركة وايت ستار المالكة لتايتانيك- عاجزين عن فهم ما حدث تحديدًا. لم يدركوا الأمر تمامًا في البداية، ظنوا أن تايتانيك اصطدمت بجبلٍ جليديّ سبّب تضررًا خفيفًا أو ربما متوسطًا في السفينة. في بداية التصريحات، كانوا يتحدثون عن أنّه «لم ينج طاقم السفينة بالكامل»، وبعد فترة «وقعت بعض الخسائر في الأرواح على الأغلب»، ثمّ «نخشى أنّ خسائر الأرواح كانت فادحة»، قبل أن ينهار بعض المسؤولين ويبكون علنًا مع ورود التقارير النهائية لما حدث.
غرق «آندروز» -مصمم السفينة-، كما غرق القبطان مع سفينته كما تقتضي قوانين البحر. أما «إيزماي»، مدير الشركة المالكة، فكان من الناجين الذين ركبوا قوارب النجاة. ولم يغفر له الناس ذلك قطّ. ورغم أنَّه اتُّهِم بتحمل جزء من المسؤولية لإصراره على عدم إبطاء السفينة في المنطقة الخطرة، لم يحكم عليه بأي شيء لغياب الأدلة. خسر «إيزماي» عمله -إلا بعض المناصب الشرفية- واعتزل الناس تمامًا حتى وفاته عام 1937. كما خسر قبطان سفينة «كاليفورنيان» أيضًا عمله وسمعته، لأنّ إهماله وتباطؤه في اتخاذ ردّ فعلٍ –رغم أنّه رأى صواريخ الاستغاثة التي أطلقتها تايتانيك– ساهم في إغراق المئات في تلك الليلة.
كان حمَّاد حسَّاب –وهو المصريُّ الوحيد على متن السفينة– من بين الناجين. كان يعمل مترجمًا ومرشدًا سياحيًّا في القاهرة، وقد دعاه السيد هنري هاربر -من ركاب الدرجة الأولى- لاصطحابه في رحلةٍ بحرية فاخرة. لكنّه لم يكن العربيَّ الوحيد في تايتانيك، فقد كان فيها أكثر من مئة راكبٍ لبنانيٍّ، لم ينج سوى نصفهم تقريبًا، بكلِّ أسف. وفي عام 2009، توفيت البريطانية «ميلڤينا دين»، آخر الناجين، عن عمرٍ يناهز 97 عامًا، وكانت رضيعةً لا يتعدى عمرها شهرين حين قفزت بها أمّها في قارب النجاة.
الصدمة العنيفة التي سببها غرق تايتانيك كان لها آثارٌ مهمة، فقد أدت إلى إدخال تعديلات جذرية في اللوائح المتعلقة بالإبحار، ومنها ضمان زيادة عدد قوارب النجاة وغيرها من عوامل الأمان، وضمان استمرار عمل الاتصالات اللاسلكية على السفن طوال الأربع والعشرين ساعة. كما أنشئت دوريةٌ دوليةٌ لرصد الجبال الجليدية في المحيط الأطلنطي. ومن الآثار المهمة الأخرى، أنَّها لفتت الأنظار إلى أهمية رفع معايير السلامة لدى ركاب الدرجة الثالثة تحديدًا. فبينما نجا 61% من ركاب الدرجة الأولى على تايتانيك، لم ينج سوى حوالي 24% من ركاب الدرجة الثالثة. وفوق كلّ هذا، شكلت تايتانيك ضربةً قويةً لثقة الإنسان البالغة في تحكمه في العالم وتقدمه التقنيّ، التي كانت سمةً غالبةً في القرن التاسع عشر.
- توجد نسخة مترجمة إلى العربية من الكتاب، صدرت عام 2018 من دار آفاق للتوزيع والنشر ترجمة حسين القباني.
- تستطيع أن تعرف المزيد من التفاصيل عن تايتانيك على الموسوعة الإلكترونية المجانية: https://www.encyclopedia-titanica.org/
- حقق الكتاب نجاحًا واسعًا وأتبع بجزء ثانٍ وثالث، وصوّر فيلم سينمائي بنفس العنوان على أساسه. لكن الكتاب الذي استعرضناه صدر عام 1955، وبالتالي فهو لا يشمل المغامرات المعقدة التي أدت إلى اكتشاف حطام تايتانيك في النهاية، وما استخرجه العلماء واستنتجوه من الحطام.
I love it
Felt like I was on the sinking ship!
I was actually doing the dance for my life with the passengers on the upside down life boat
Lov it so very much, u should do more documentary books please