غاستون ليرو، 1910
تحذير: هذا المقال يحتوي على معلومات مفصلة عن القصة ونهايتها
كثيرًا ما مررتُ على إشاراتٍ لشبح الأوبرا في أعمال أدبية وفنية متنوعة خلال طفولتي ومراهقتي، وظلّت على قائمة الانتظار طويلًا إلى أن قررت أن أقرأها أخيرًا -دون حماس كبير- عام 2013. وأنا سعيدة أنني فعلت! فلقد سحرتني القصة تمامًا. والقصة -إن كنت لم تخمن بعد- تتحدث عن شبح مزعوم ما، وتدور في الأوبرا!
عندما ندخل القصة، نجد أننا في كواليس الأوبرا الصاخبة، وسط تدريبات راقصي الباليه ومطربي الأوبرا، ونكتشف أن شخصًا ما قد وُجد مقتولًا هناك، وأن الشائعات تفيد أن الشبح هو المسؤول. وإن كنت تتساءل ما إذا كان الشبح حقيقيًا أم لا، فسرعان ما ستكتشف أنك لست وحيدًا، إذ أن شخصيات القصة نفسها لا فكرة لديها. كما ستكتشف أيضًا أننا وصلنا في لحظة تغيير إداريّ مهم. إذ يبدو أن المديرَين السابقين قد فاض بهما الكيل من ألاعيب شبح الأوبرا وتحكماته التي لا تنتهي، فقررا أن يستقيلا. أما المديران الجديدان فلا يأخذان أمر الشبح على محمل الجد، واعتبرا الأمر كله مجرد مزحة تثبت أنه «من غير المرجح أن يندثر حس الفكاهة الفرنسي أبدًا». ولا بد أنك تلتمس لهما العذر، فليس من الممكن أبدًا أن يطالب شبح يحترم نفسه بمصروف شهري يبلغ 20 ألف فرانك فرنسي في الشهر، وأن يطالب بتخصيص الشرفة رقم (5) المطلة على المسرح له حصريًا، مشددًا على منع حجزها للجمهور منعًا باتًّا (ومن الطريف أن الشرفة رقم 5 لا تزال محجوزة للاستخدام الحصري لشبح الأوبرا في أوبرا باريس حتى اليوم، المزيد من التفاصيل في المقال الهدية هنا)، ثم سترى بنفسك كيف تحول استخفافهما بالشبح إلى غضب، قبل أن يصير رعبًا حين أدركا الحقيقة.
لكنك ستبدأ في اكتشاف جانبٍ مختلف تمامًا لقدرات ذلك الشبح المزعوم إذا تابعت أنشطته في جانبٍ آخر من الأوبرا. حيث حلت مطربة أوبرا شابة متوسطة الموهبة، اسمها كريستين داييه، محل المطربة الأساسية بشكل مؤقت لمرض حل بالأخيرة. ورغم أننا لا نسمع صوت كريستين نفسه للأسف، لكننا نرى أثره منعكسًا على الصمت المذهول الذي خيم على الحضور قبل أن يذهب الحماس بعقولهم، فيقفون وهم يصرخون ويصفقون كالمجانين، إذ سمعوا تلك الطبقات الرهيبة والنغمات الصافية التي لا تنبغي لأحبال صوتية بشرية، خاصة إذا كانت لمطربة متواضعة القدرات مثل كريستين، التي تعمد الكاتب إخبارنا أنها لا تتلقى أي دروس غناء حاليًا.
❞تحدث صوت الرجل من جديد: «هل أنت متعبة؟»، ردت كريستين: «أوه! لقد وهبتك روحي الليلة، وأنا ميتة!». «روحك شيء جميل يا صغيرتي»، هكذا رد صوت الرجل بلهجة جادة: «وأنا أشكرك. لم يسبق أن تلقى إمبراطور هدية بهذا الجمال. لقد بكت الملائكة الليلة» ❝
ثم تبدأ شخصية جديدة في لفت انتباهنا، إنه النبيل راؤول دي شانييه، وهو شخصية أدبية فريدة تتمتع بقدر من السماجة لا مثيل له! وهو يقضي جل وقته في التذمر والبكاء وذرف الدموع (حقيقة لا مجازًا) لأنه يشعر بالغيرة، أو الحر، أو الجوع، أو لأن شقيقه أخبره أن كريستين شوهدت مع رجل آخر، إلخ. لكننا سنضطر لاصطحابه في أغلب القصة كي نصل إلى الشبح، فاحتمل!
إذا استطعت أن تعصر نصف حقل من الليمون على نفسك وأن ترافق النبيل السمج راؤول، فستعرف أن شبح الأوبرا وراء موهبة كريستين الفذة المفاجئة، حيث اختطفها لعدة مرات مقنعًا إياها أنه «ملاك الموسيقى» – الذي طالما حكى لها والدها الراحل عنه في طفولتها- كي يعلمها الغناء بصوته الساحر. وسندرك أيضًا عندما ينجح راؤول في إصابة الشبح ويراه ينزف أنه -على الأرجح- ليس شبحًا على الإطلاق! فالشبح الذي ينزف ليس شبحًا خطيرًا على أي حال، كما قال راؤول في جملته التي سكنت مخيلتي، ولقد رأيت في أحلامي غير مرة أنني أقول للخائفين من منزل مسكون بشبح أن المسكين ينزف، وأن الأشباح لا تنزف!
❞دماء! دماء! هنا، هناك، المزيد من الدماء! هذا شيء جيد! الشبح الذي ينزف هو شبح أقل خطرًا — تستطيع أن ترى الدم بنفسك. ظننت أنني كنت أحلم وأنني أطلقت النار على نجمتين. لقد كانتا عيني إريك… وها هو دمه! ربما كنت مخطئًا لأنني أطلقت النار، فقد لا تسامحني كريستين مطلقًا…❝
على أي حال، كان أول من عرف سر الشبح هي كريستين التي أدركت أنه -وإن لم يكن شبحًا- كان رجلًا عبقريًا ذا قدرات غير عادية، يتقن فنون الخداع الصوتي والبصري بشكل ينافس أعتى السحرة، وله حنجرة بقدرات غير بشرية، إلى جانب إجادته للكلام من بطنه ومحاكاة أصوات عديدة، إنه رجل غامض مقنَّع لا يدع قناعه أبدًا، يعيش كصوت لا وجه ولا جسم له، كشبح، وقد حفظ كل ركن من أركان الأوبرا، ودس فيها مداخل ومخارج سرية تضمن له حرية الحركة في الخفاء، وله اسم غير شبحي على الإطلاق إن أردت رأيي: إريك!
كان قد اختطفها كعادته في قبوه العجيب تحت دهاليز مبنى الأوبرا الضخم السحيق التي أسس فيها عالمًا كاملًا له، وبيتًا على البحيرة الموجودة تحت المبنى (تفاصيل عالم ما تحت مبنى أوبرا باريس حقيقية، راجع التفاصيل وصور من جوجل مابس في المقال الهديةهنا). كان منهمكًا في غناء عطيل معها في إحدى دروسه بصوته الساحر المنوِّم، حين داهمتها لحظة فضول أنثوي لا يقاوم، فانتزعت القناع، وفزعت لهول ما رأت، وفزع هو لانكشاف الوجه المشوه المتآكل، الذي كان أشبه بجمجمة متحللة. جن جنونه، وفهمت هي أن وراء الرجل العبقري متعدد المواهب ذي الصوت الملائكي الساحر، طفلًا مشوهًا رفضه أبوه وفزعت منه أمه التي أهدته قناعًا يخفي به بشاعته. حاول إريك بكل شكل أن يجد أي شخص يتقبله، ولمّا لم يجد ضالته، انتهى به الأمر شبحًا مهيبًا يبث الرعب في قلوب الجميع دون أن يسمح لأحد بالاقتراب منه، إلى أن رأى كريستين ووقع في حبها. والآن، بعد أن كشفت سره، قرر ألا يطلق سراحها أبدًا. كانت كريستين تحب النبيل اللزج راؤول لسبب كونيّ غير مفهوم، وكانت تشعر برعب لا حدّ له تجاه إريك ،الذي لم يكن يعرف كيف يعبر عن مشاعره أو عن نفسه إلا بشكل يروعها، لكنها لم تستطع أن تكرهه أبدًا.
حاول راؤول استعادة كريستين، فذهب بصحبة رجل عجوز من العاملين بالأوبرا يُعرف باسم الفارسيّ، وكان يعرف إريك قبل أن يتحول إلى شبح الأوبرا، إلى أعماق دهاليز الأوبرا المهجورة. وهناك، يستدرجهما إريك إلى غرف التعذيب التي جهزها بكل فنون الخداع البصري والصوتي بحيث يقضيان أسود ليالِ حياتهما، وتحاول كريستين كل ما بوسعها كي تنقذهما. ويجن جنون إريك إذ يدرك أنه على وشك أن يفقد كريستين، فيهددها بأنه سيفجر دار الأوبرا كلها إذا لم توافق على الزواج به قبل حلول الحادية عشرة من مساء اليوم التالي.
❞أنا لا أعبر عن نفسي مثل الآخرين مطلقًا. لكنني سئمت هذا كله! لقد سئمت وتعبت من امتلاك غابة وحجرة تعذيب في منزلي، ومن العيش كالمشعوذين! لقد تعبت! أريد أن أمتلك شقة لطيفة هادئة، بأبواب ونوافذ عادية، وزوجة داخلها مثل الجميع! زوجة أستطيع أن أحبها، وأن آخذها في نزهة أيام الآحاد، وأن أسليها بقية أيام الأسبوع… انظري، هل أريك بعض الخدع باستخدام أوراق اللعب؟ سيساعدنا هذا على تمرير بعض الدقائق بينما ننتظر الساعة الحادية عشرة من مساء الغد.. أوه يا صغيرتي العزيزة كريستين! هل تنصتين إليّ؟… قولي إنك تحبينني!.. لا، أنتِ لا تحبيني، لكن لا بأس، سوف تفعلين. لم تستطيعي النظر إلى قناعي من قبل لأنك كنتِ تعرفين ما يقبع خلفه، والآن لا تمانعين النظر إليه وقد نسيتِ ما خلفه! يستطيع المرء أن يعتاد كل شيء إذا أراد!…..❝
❞لقد اخترعتُ قناعًا يجعلني أبدو كأي شخص. لن يدير الناس وجوههم في الشوارع (إذا رأوني). ستكونين أسعد النساء. وسوف نغني، وحدنا، حتى نفقد وعينا من شدة السعادة. أنتِ تبكين! أنت تخافينني! ورغم ذلك، فأنا لستُ شريرًا حقًا. أحبيني وسوف ترين! كل ما أردته هو أن أكون محبوبًا لذاتي. إذا أحببتني لأكونن لطيفًا كحمل، وسيكون بوسعك أن تفعلي بي ما تشائين ❝
ويتمنى راؤول الذي أضناه التعب أن توافق كريستين كي ينتهي الكابوس! وهذا هو ما تفعله كريستين بالضبط، على أي حال. لكنك إن ظننت مثلي أن إريك سيقف سعيدًا ظافرًا منتصرًا، فسوف تكتشف كم كنا مخطئين. وستتملكك الدهشة وأنت تراه بعد ذلك في حالة غير معتادة من التأثر والشحوب، يتهاوى على المقعد ويشعر برغبة قوية في أن يحكي شيئًا ما للفارسيّ. لا بد أنك شعرت بغصة في قلبك وأنت تراقب كيف ازدادت حرارة تأثره وهو يحكي ما حدث، حتى أنه يطلب من الفارسيّ أن يشيح بوجهه لأنه يجب أن يخلع قناعه ليلتقط أنفاسه الثقيلة، ويكرر رجاءه وتحذيره بألا ينظر الفارسي أبدًا كيلا يرى وجهه البشع. ولسنا وحدنا من نتأثر بحرص إريك على إخفاء وجهه حتى في لحظات تأثره الشديد، وبما يحكيه، إذ إن الفارسيّ العجوز أيضًا لا يملك سوى أن يترك دموعه تتساقط تأثرًا حين يسمع صوت إريك المتهدج يحكي كيف أن كريستين وقفت إلى جانبه في غير نفور واضح، كيف أنها لم تشح بوجهها حين مال ليقبل جبينها، كيف أنها قبلته على جبينه تطوعًا دون أن تشمئز أو تفر أو تموت، كيف أنها أشفقت عليه حين بكى في تأثر وذهول فراحت تبكي معه، كيف أنه تهاوى في هذه اللحظة وحلها من وعدها بالزواج منه، وأخبرها أن تذهب وتتزوج راؤول الذي تحب. وكيف أنه على يقين أنه سيموت قريبًا.
❞شعرت بدموعها على جبهتي… جبهتي أنا! كانت ناعمة، كانت حلوة! انزلقت دموعها تحت قناعي، واختلطت بالدموع التي كانت تملأ عينيّ.. فخلعت قناعي حتى لا تفوتني أي دمعة واحدة من دموعها، ومع ذلك لم تهرب! ولم تمت! بقيت حية، تبكي عليّ، تبكي معي. بكينا معًا! لقد ذقت كل السعادة التي يمكن لهذا العالم أن يقدمها إليّ! سمعتها تقول: يالإريك المسكين التعس! ثم أمسكت يدي! كان معي الخاتم، خاتم الزواج، مررته في كفها الصغير وقلت: تفضلي، خذيه! خذيه لكِ، وله! ستكون هذه هديتي لزفافك، إنها هدية من إريك المسكين التعيس، أنا أعرف أنك تحبين ذلك الشاب، لا تبكِ ثانية! سألتني بصوت خافت عما أعنيه، فأفهمتها أنها تستطيع أن تتزوج الشاب وقتما أرادت، لأنها بكت معي، وخلطت دموعها بدموعي ❝.
وأسلوب القصة أو حوارها في المجمل مسرحيّ الطابع (وربما يكون هذا لأنني قرأت الترجمة الإنكليزية للنص الفرنسي، لا أدري)، لكن هذا لا يقلل من سحرها، ولا من وقع تأثيرها على القارئ. على أي حال، مات إريك بعد ثلاثة أسابيع تقريبًا من هذا الحدث، لكن شبح الأوبرا المهيب الغاضب الثائر الذي كان إريك الحقيقيّ يختبئ وراءه كان قد مات فعلًا في اللحظة التي وقفت فيها كريستين إلى جانبه، تبكي من أجله، دون أن تفر منه، إنها اللحظة التي ظل يشتاق إليها منذ أن كان طفلًا حتى جن غضبًا حين فشل في العثور عليها. لكنه عندما وجد ذلك التقارب والقبول الإنسانيّ بعد يأس تام، صُعق، وخمد غضبه، وخارت قواه، وشعر أنه قد تصالح مع ماضيه كله، بما فيه أمه التي كانت ترفض أن تسمح له بتقبيلها أو الاقتراب منها، فوصفها بـ«أمي المسكينة التعسة»، فلقد كان يشفق عليها، وعلى الفارسيّ، وعلى العالم أجمع من قبحه الذي لا ذنب له فيه، بينما لم يشفقوا هم عليه وأذاقوه مختلف ألوان الألم والظلم. لقد مات شبح الأوبرا الذي كان بمثابة قناع معقد لشخصية إريك. وهكذا انتهت القصة (دون أن يتم التخلص من راؤول للأسف الشديد!).
وقد يكون أكثر ما لفت نظري في النهاية هو التناقض الصارخ بين إريك وكل الآخرين في القصة، وأنا لا أعني فقط التناقض المتمثل في حياته الخفية في قبو الأوبرا المعقد في الظلام وحياتهم هم كنجوم ساطعة على مسارح الأوبرا كفنانين ومديرين ومتفرجين من أنبل الطبقات وسط الأضواء، بل أعني أيضًا التناقض بين شخصيته المركبة وشخصياتهم السطحية، صراعه الحقيقيّ مع نفسه والآخرين، وصراعاتهم السطحية المملة، النابعة من أنانيتهم وأطماعهم، نهايته النبيلة الحزينة، والنهاية السعيدة لقصصهم. كان إريك أكثر ذكاء ونبلًا من جميع الشخصيات الأخرى، لكن هذا لم يشفع له، لأن وجهه كان قبيحًا أكثر من اللازم، وهو المعيار الأهم في كثير من الأحيان، حتى خارج جدران الأوبرا!
❞يالإريك المسكين التعس! هل نشفق عليه؟ هل نلعنه؟ كل ما طلبه هو أن يكون «شخصًا ما»، مثل أي شخصٍ آخر. لكنه كان قبيحًا أكثر من اللازم! وكان عليه أن يخفي عبقريته أو يستغلها في التلاعب والحيل، بينما كان من الممكن أن يكون واحدًا من أكثر البشر تميزًا لو كان له وجه عادي! كان له قلب قادر على امتلاك إمبراطورية العالم أجمع، وفي النهاية، كان عليه أن يرضى بقبو. نعم، يجب أن نشفق على شبح الأوبرا ❝
- يمكن الحصول على نص القصة (مترجم للإنكليزية) كاملًا من مشروع غوتنبرغ.
- يوجد عددٌ من تسجيلات الكتب الصوتية المجانية للترجمة الإنكليزية على موقع ليبريفوكس. (كان أول اطلاع لي على القصة عبر النسخة الصوتية الدرامية على ليبريفوكس، ورغم أنني قرأت القصة واستمعت لعدة نسخ صوتية مجانية ومدفوعة، تظل تلك النسخة هي الأقرب والأحب إلى قلبي، وهي التي أعود إليها كلما أردت دخول عالم شبح الأوبرا الساحر المقبض من جديد).
حاتابع كل أسبوع بكل حماس و اشتياق و اوعدك حاقرأء شبح الأوبرا لاني ما قرأت ش قبل كده و كلي ثقه في ذوقك الجميل يا حبيبه ماما